ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فلقد أنزل الله كتابه وأرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليبين للناس غاية خلقهم في هذه الدنيا، وهي عبادة الله كما أراد، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات. ولله -سبحانه وتعالى- على العبد عبودية في الضراء، كما له عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، وكذلك الشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى1.
ابن آدم:
اعلم أنك مريض القلب من جهتين: إحداهما مخالفتك أمر الله، والأخرى: غفلتك عن ذكر الله, ولن تجد طعم العافية حتى تكون على طاعة الله مقيماً, ولذكر الله مديماً, فعالج مرض المخالفة بالتوبة ومرض الغفلة بالإنابة, وإلا فاعلم عما قليل أنك هالك ومنتقل من أهلك ومالك إلى قبضة ملك مالك.
قدم لنفسك فضل مالك، وأمهد لها قبل انتقالك, خذ للتأهب للرحيل فقد دنا وقت ارتحالك, واعمل على تخليص نفسك من سبالة سوء حالك, سبحان من أنعم على أوليائه بالعافية من أسقامنا, سبحانه مكن لهم في مقامهم وزحزهم من مقامنا! الإصرار والغفلة مقامنا, ومقامهم التوبة والإنابة, {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (24) سورة الفرقان.2.
أخي:
إن من أنواع العبادة التي تزيل الغفلة وتقرب إلى الله عبادة ركّز الإسلام عليها ونبه إلى أهميتها, ألا وهي: ذكر الله عز وجل.
والمسلم العاقل يسابق إلى أفضل الأعمال عند الله فيعمل بها، وقد صح من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ, وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ, وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ, وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟) قَالُوا: بَلَى, قَالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى)3.
وأما التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فالذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عند الله تعالى, فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
وقد جاء رجل يشكو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثرة شرائع الإسلام عليه، وطلب منه ما يتمسك به، ليصل به إلى الجنة، وذلك من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ, فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟ قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)4. فهذا الحديث يدلُّ دلالة واضحة على أن الذكر من أهم ما يعين المسلم على العمل بشرائع الإسلام وفهمه5.
إن ذكر الله هو قوت القلب والروح, فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته, ولقد حضر ابن القيم –رحمه الله- يوماً عند شيخ الإسلام ابن تيمية وقد صلى الفجر, فإذا به قد جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار, ثم التفت إليه وقال: هذه غدوتي, ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. وقال له مرةً لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاماً هذا معناه6.
وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية –رحمه الله- أنّ لذكر الله أكثر من مائة فائدة ذكر منها في الوابل الصيب ثمان وسبعون فائدة، نذكر منها:
1. أنه يرضي الرحمن عز وجل.
2. أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
3. أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
4. أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
5. أنه يقوى القلب والبدن.
6. أنه ينور الوجه والقلب.
7. أنه سبب تنزيل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
8. أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر.
وغير ذلك من الفوائد التي ذكرها ابن القيم رحمه الله.
ويكفينا من ذلك كله أن الله قد بين أن بذكره انشراح الصدر وطمأنينته, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, واجعلنا من الذاكرين لك كثيراً, واغفر لنا وارحمنا, واجعل لنا من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل عسر يسراً, ومن كل بلاء عافية, وصلّ اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين
1 مجلة البيان العدد 7 ص36 ذي الحجة 1407هـ.
2 التذكرة في الوعظ لـ(عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي).
3 رواه الترمذي (3299) وأحمد (20713) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2269).
4 رواه الترمذي (3297) وابن ماجه (3783) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1491).
5 مجلة البيان العدد 7 ص36 ذي الحجة 1407هـ.
6 الوابل الصيب لـ(ابن القيم).