التسـول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى أله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإن هناك ظاهرة منتشرة على نطاق واسع في بلاد المسلمين، ولذلك وجب التنبه على هذه الظاهرة، وبيان حكمها، ألا وهي ظاهرة التسول، والذي يقصد به سؤال الناس بعض المال، ونقول ظاهرة منتشرة على نطاق واسع لأنا فعلاً كذلك؛ فلا يخلو مكان من وجودها، فإذا ما ذهب الإنسان إلى المرافق الحكومية وجد المتسولين على أبوابها، وإذا ما كان يمشي بالشوارع رآهم على أرصفتها، وإذا ما ذهب إلى السواق رآهم يتجولون على باعتها ومحلاتها، وإذا ما ذهب إلى المستشفيات رآهم قابعون عند مداخلها، وإذا ما ذهب إلى بيوت الله، فليحدث ولا حرج؛ ففي الغالب أنك لا تجد مسجداً في بلد من بلاد المسلمين وعلى مر الصلوات الخمس إلا وترى متسولاً على الأقل قد وقف على بابه أو بين يدي المصلين، وأما في بعض المساجد المزدحمة فقد ترى أكثر من واحد كلهم يسأل الناس بصوت عال، دون مراعاة لآداب المساجد، وآداب الكلام، بل ربما رأيت النساء عقب الصلوات يدخلن إلى المسجد ثم يسألن الناس، حتى أصبح التسول عند كثير من هؤلاء وظيفة يتعيّش بها، وذلك لأنه وجد أنه ببذل ماء وجهه، وقلة حيائه، وسؤاله الناس، يجمع دراهم كثيرة، ربما لا يقدر على جمعها بعمل آخر على ظنه، وترتب على هذا أن أصبح الناس لا يميزون بين من هو مستحق محتاج للمال فيساعدونه، وبين من هو كاذب محتال فيعرضوا عنه،
هذا عن كثرة المتسولين، وأما عن أساليبهم فقد تعددت وتنوعت، فلربما ربط أحدهم قربة أو قارورة ماء بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه، ووضع بها محلولاً أحمر 1. ثم قام يسأل الناس، ويخبرهم بأنه مصاب بمرض السرطان ونحوه، وهذا ما حصل فعلاً في مسجد من مساجد بلاد المسلمين، فقد جاء أحد المتسولين إلى المسجد وقد ربط قربة - علبة ماء- بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه، ووضع فيها محلولاً أحمر، وفي أثناء الصلاة صلّى جالساً، ولمّا انتهى من الصلاة وكانت حينها صلاة العصر، وقف يسأل المصلين مظهراً لتلك القربة وأنه مصاب بمرض السرطان!، فما كان من الناس إلا أن تأثروا تأثراً بليغاً، وأبدوا تعاطفهم معه، وجمعوا له مبلغاً كبيراً من المال، بل أراد أحد الأخوة الفضلاء أن يتمم الإحسان فيذهب به إلى مسجد مجاور عله يجمع ما يعالج مرضه.
ولما وصلا إلى المسجد في صلاة المغرب، ما كان من ذلك المصاب بمرض السرطان إلا أن أعاد تشغيل ذلك الشريط الذي شنف به آذان المساكين في المسجد الأول حذو القذّة بالقذّة، ولكنها كانت الفضيحة والفاجعة بالنسبة لذلك الدعي، فقد كان إمام وخطيب ذلك المسجد طبيباً يعمل في مستشفى حكومي، لا تنطلي عليه التمثيليات الفاترة التي انتهت صلاحيتها للعرض، حيث استغرب من قوله أنه مصاب بمرض السرطان وأن علامة ذلك، ذلك الدم الذي يحمله في القربة!! وجرى بين الإمام والمتسول حديثاً سريعاً عن طبيعة المرض وكيفيته، وقف على إثرها الطيب محذراً للناس من إعطاء ذلك المتسول شيئاً من المال؛ أن السرطان الذي يدعيه لا يسبب خروج الدم الذي يدلس به على الناس، فبهت المتسول، وخرج من المسجد مفضوحاً خاسئا وهو حسير.
و هناك من قصص المتسولين ما هو شر منها وأفضع وأكثر كذباً ونصباً واحتيالاً، ولكن ذكرنا هذه القصة هنا لأمور منها:
1- أن كثيراً من المتسولين كذبة، يستعينون بما يجمعون من أموال في المعاصي والفجور وقد تكلم العلماء عن حكم السؤال، فمنهم من حرمه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه بشروط، وفي حالة معينة، وذلك لورود أدلة تدل على منعه، وأدلة تدل أخرى توحي بجوازه في حالات معينة وبشروط محددة، ومن هؤلاء ابن تيمية - رحمه الله– كما جاء في غذاء الألباب أنه سئل عن حكم السؤال في المسجد فقال: أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلاّ الضرورة فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو هم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز 2.
إذن فالأصل في سؤال الناس التحريم في المسجد أو في خارج المسجد؛ وإنما يجوز في حالات معينة للضرورة الخارجة عن ذلكم الأصل، وذلك لأن في سؤال الناس تعريض للنفس للهوان والذلة، وفيه دلالة على ضعف توكل السائل على الله، ودناءة طبعه.
2- إن وجود مثل هذه الحالات من الكذب والدجل والتدليس على عباد الله تجعل الكثير من أهل الإنفاق يحجم عن النفقة والتصدق على الفقراء والسائلين وبالتالي يحرم من الصدقة والعطف صنف من الناس قد قسم الله لهم ذلك فقال تعالى: {والسَّآئِلِينَ} البقرة:177
3- ما تكسه مثل هذه الحوادث من تدني مستوى الأخلاق في المجتمع، وهي أخلاق وصفات لا تمت إلى أخلاقنا وإسلامنا بأي صلة
أما الأدلة في ذم التسول فهي في هذا الباب كثيرة ومنها :عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم" 3.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أوخموشاً أوكدوحاً في وجهه " قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " 4.
وصح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الله عز وجل يكره ذلك فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله - عز وجل - حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " 5.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد ضم الجنة لمن لم يسأل الناس شيئاً ؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة " قلت: أنا. قال:" لا تسأل الناس شيئا " قال: فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه.6
هذا والله نسأل أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى, والله أعلى وأعلم وأحكم،
وصل اللهم على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
سبحنك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
1 - وهو نوع من أنواع العصيرات المعروفة عند اليمنيين.
2 - انظر غذاء الألباب 2/267.
3 - رواه البخاري(1381) ومسلم(1724).
4 - رواه ابن ماجة(1830) والترمذي( 588) والنسائي(2545) وأبو داود( 1385) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم(1460).
5 - رواه البخاري(2231) ومسلم(3239).
6 - رواه ابن ماجة(1827) وأبو داود (1400) والنسائي (2543) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم(1487).وصحيح أبي داود برقم( 1450).