الجرأة على الفتيا
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه والتابعين, ثم أما بعد: فإن من أنبل ما يشتغل به المشتغلون، وخير ما يعمل له العاملون نشر علم نافع تحتاج إليه الأمة، يهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية؛ كيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة. وأوجب على أهل العلم نشره، ونهاهم عن كتمانه، فقال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (187) سورة آل عمران.
وإن لنشر العلم وسائل كثيرة من أهمها التصدي للإفتاء؛ لعموم الحاجة إليه وكثرة التعويل عليه، لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى معظم المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم، أو يؤرق بالهم، لتصحيح عبادة، أو تقويم معاملة، والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على أيديهم، ويصبح من ثم وارثاً لعلومهم.
وما زال الإفتاء قائماً منذ فجر الإسلام، وحتى هذه الأيام، حتى خلف العلماء كثيراً من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، كانت وما تزال مصدراً من مصادر الإشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة الأمم ورقي الشعوب, لهذا كانت منزلة الإفتاء عظيمة، ومكانتها كبيرة؛ لأنها بيانٌ لحكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول.
وقد تقلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب العظيم، فكان له منصب النبوة، ومنصب الإمامة، ومنصب الإفتاء.
ولئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرة فيما مضى، فإن الحاجة إليها في هذه الأيام أشد وأبقى؛ فقد تمخض الزمان عن وقائع لا عهد للسابقين بها، وعرضت للأمة نوازل لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها، فكانت الحاجة إلى الإفتاء فيها شديدة؛ لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة؛ إذ لا يعقل أن تقف شريعة الله العليم الحكيم عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتسعة لكل ما يحدث لهم أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرة بالتطبيق في كل مكان.
ولما كانت الفتوى بيانٌ لأحكام الله، والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله، فإن القول على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات؛ لما فيه من جرأة وافتراء على الله، وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم.
أما إنه من كبائر الإثم؛ فلقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف. فقد قرن الله تعالى القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي والشرك، للدلالة على عظم هذا الذنب، وقبح هذا الفعل, قال ابن القيم –رحمه الله-: "وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، -وبعد أن ساق الآية التي أوردناها قال-: فرتب المحرمات أربع مراتب:
بدأ بأسهلها وهو الفواحش, ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم, ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منها وهو الشرك به سبحانه, ثم ربَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
ومما يدل أيضاً على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (116-117) سورة النحل.
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه.
هذا ما يتعلق بكونه من كبائر الإثم, وأما كونه إغراءً وإضلالاً للناس، فَلِما روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)1.
لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة, فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول"2.
وفي رواية: "ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"3.
يا له من فرق شاسع بين ذلك الزمان وزمان نعيشه اليوم سمعنا فيه فتاوى ظالمة، وآراء آثمة، فيها محادة لله ورسوله، منها: القول بجواز ربا البنوك محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ, مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، منها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (278-279) سورة البقرة.
ورغم هذا الوعيد الشديد فقد خرج على الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك، دون وجل أو خوف من ملك الملوك، أو خشية من عذاب الله، أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن القيم –رحمه الله-: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر"4.
وأخيراً –أخي المسلم- ليس كل إمام مسجد عالم وليس كل خطيبٍ أو واعظ عالم وليس كل من عليه علامات الصلاح والتقوى من أهل العلم, فيجب علينا أن نأخذ ديننا من العلماء وأهل العلم, ولا نخوض في شرع الله بغير علم وبصيرة5.
فمن سئل عن فتوى فينبغي أن يصمت عنها ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها أو من كلف الفتوى بها وذلك طريقة السلف.
نسأل الله السلامة والعافية وحسن التمسك بشريعة الإسلام كما أراد الله تعالى وشرع, اللهم اجعل جميع أعمالنا ظاهرها وباطنها خالصة لوجهك الكريم موافقة لسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري برقم (98) (ج 1 / ص 176) ومسلم برقم (4828) (ج 13 / ص 160).
2 الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (ج 2 / ص 206).
3 سنن الدارمي برقم (137) (ج 1 / ص 155).
4 إعلام الموقعين لـ(ابن القيم) (4/211).
5 مستفاد من موقع صيد الفوائد ومجلة البيان بتصرف.