حتى لا تكون ثقيلاً
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وعلى آله وصبحه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد حث الإسلام على الضيافة والزيارة، وجعل إكرام الضيف من الإيمان؛ كما جاء في الحديث عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي (أي يبقى) عنده حتى يحرجه) أخرجه البخاري. وأخرجه مسلم بلفظ: (الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه) قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء يقريه به).
قال النووي عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه) "معناه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث حتى يوقعه في الإثم؛ لأنه قد يغتابه لطول مقامه، أو يعرض له بما يؤذيه، أو يظن به مالا يجوز، وقد قال الله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ سورة الحجرات(12). وهذا كله محمول على ما إذا أقام بعد الثلاث من غير استدعاء من المضيف، أما إذا استدعاه وطلب زيادة إقامته أو علم أو ظن أنه لا يكره إقامته فلا بأس بالزيادة؛ لأن النهي إنما كان لكونه يؤثمه، وقد زال هذا المعنى، والحالة هذه فلو شك في حال المضيف هل تكره الزيادة ويلحقه بها حرج أم لا تحل الزيادة إلا بإذنه لظاهر الحديث، والله أعلم".1
فينبغي للضيف أن يخفف الجلوس والبقاء عند المضيف، حتى يكون محبوباً، كما قال بعض الحكماء: "من سقطت كلفته دامت ألفته". وقال بعض السلف: "شر الإخوان من تتكلف له".
وكان الفضيل بن عياض -رحمه الله- يقول: "إنما تقاطع الناس بالتكلف, يدعو أحدهم أخاه فيتكلف فيقطعه عن الرجوع إليه".
وحتى لا تكون ثقيلاً على صاحبك وتزداد محبته لك فاعمل بإرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (زر غِبّاً تزدد حباً)2. أي زر أخاك حيناً بعد حين، وليس في كل حين من أجل أن يشتاق إليك لبعد الفراق.
ولذا قال أحدهم:
إِني رأيتك لي محباً * وإليَّ حينَ أغيبُ صباً
فعُدت لا لملالة حدثَتْ * ولا استحدثت ذنباً
وعليه فتكون الزيارة من دون: إفراط ولا تفريط, فلا تكون الزيارات كثيرة حتى يغزو قلب الصاحب الملل، ولا التجنب حتى يظن أنك هاجرهُ, لذا لابد من مراعاة ثلاثة أمور:
الأول: أن لا يكون عدم الإكثار من الزيارة مصاحباً للجهل بأحوال الصاحب والغفلة عن ظروفه, بل المراد الاقتصاد مع الاهتمام بأحوال صاحبك وظروفه, وبقدر الحاجة لذلك تكرر الزيارة.
ثانياً: أن الإكثار من الزيارة إذا كان لحاجة أخيك لا لحظ لنفسك فإنه سيزيد المحبة؛ لأن السعي في قضاء حوائج أخيك أمر محمود حث عليه الشرع: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)3..
ثالثاً: أن الإقلال من الزيارة لا ينبغي أن يصل إلى الحد الذي يشق على الأخ أو يسئ بسبه الظن بك. والمهم أن تحذر من الزيارات الزائدة عن حاجة المزور, فذلك مفتاح المشاكل والأخطاء وربما العداوات..
فالتوسط في كل شيء خير، والله نسأل أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
1 شرح النووي على مسلم(12/31).
2 رواه الطبراني، وقال الألباني: "صحيح لغيره"، كمما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2583).
3 رواه مسلم.