المـنّ والأذى
الحمد لله الفتاح العليم، الملك العظيم، الرب الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) سورة القلم. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم, أما بعد1:
فإن المن يطلق على القطع والانقطاع ومنه قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) سورة التين. أي غير مقطوع.
ويطلق أيضاً على اصطناع خير، والمنة هي النعمة الثقيلة، ومن ذلك قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ (164) سورة آل عمران. وقد تكون المَّنة بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة.
ومن صور المن التي وردت بذمها الآيات، ما جاء في قوله تعالى: وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) سورة المدثر. وقوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) سورة الشعراء. وقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) سورة الحجرات. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى (264) سورة البقرة.
وقال القرطبي -رحمه الله-: "المنُّ غالباً يقع من البخيل والمُعجب, فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها, والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه مُنعم بماله على المُعطَى, وإن كان أفضل منه في نفس الأمر, وموجب ذلك كله الجهل, ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه, ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد"2.
والمنَّ عموماً يحتمل تفسيرين: أحدهما إحسان المحسن غيرَ معتَدّ بالإحسان, يقال: لحقت فلاناً من فلان منّةٌ, إذا لحقته نعمةٌ باستنقاذٍ من قتل أو ما أشبهه, والثاني منَّ فلانٌ إذا عظَّم الإحسانَ وفخر به وأبدأ فيه وأعاد حتى يفسِده ويُبغّضه, فالأول حسن, ويدخل فيه كل صور المن من الله تعالى, والثاني قبيح وهو الذي يأتي على معنى التقرير للنعمة والتصريح بها أو أن يتحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المُعطي فيؤذيه, والمن حينئذ من الكبائر.
وقد ثبت ذم المن أيضاً في الأحاديث الشريفة والتي منها حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منة, والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)3. وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة, العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث, وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى)4.
ووردت آثار وأقوال للعلماء في ذم المن ومنها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لا يدخل الجنة منان, فشق ذلك عليّ حتى وجدت في كتاب الله في المنان: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى (264) سورة البقرة.
وفي تفسير قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) سورة المطففين. قال أبو مُليكة الزماري: المنان والمختال الذي يقطع بيمينه أموال الناس.
وعن الضحاك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قال: من أنفق نفقة ثم منّ بها أو آذى الذي أعطاه النفقة حبط عليه أجره فضرب الله مثله صفوان عليه تراب فأصابه وابل فلم يدع من التراب شيئاً, فكذلك يمحق الله أجر الذي يعطي صدقة ثم يمن بها كما يمحق المطر ذلك التراب.
أخي المسلم الكريم:
إن المن يستجلب غضب الله سبحانه ويستحق المانّ الطرد من رحمته -جل وعلا- وهو يوغر الصدور ويحبط الأعمال وينقص الأجر وقد يذهب به بالكلية, ويحرم صاحب هذه الآفة من نعمة نظر الله وكلامه معه يوم القيامة, فإياك إياك أن تكون مناناً فإن المن صفة البخلاء5.
نسأل الله أن يفقنا لما يحب ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات لـ(السعدي).
2 فتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 29).
3 رواه مسلم برقم (155) (ج 1 / ص 278).
4 رواه النسائي برقم (2515) (ج 8 / ص 342) وقال الألباني حسن صحيح كما في تحقيق سنن النسائي برقم (2562).
5 مستفاد من موقع الشبكة الإسلامية بتصرف.