الدَّياثـة
الحمد لله الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق, وشرع له من الدين ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم, فهو أفضل الأديان وأنفعها للخلق, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد1:
فقد حثت شريعتنا الغراء على مكارم الأخلاق ونهت عن مساوئها؛ لما يترتب على انتشار الأخلاق السيئة من أضرار على الأفراد والمجتمعات.
ولقد جاءت الشريعة بحفظ النسل والأعراض من كل ما يدنسها أو يعدو عليها, فشرعت أقسى العقوبات لمن سولت له نفسه الاعتداء على أعراض الآخرين, قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (2) سورة النــور. وهذه العقوبة لمن كان غير محصن أما الزاني المحصن فحده في الشرع الرجم، كما حرمت الشريعة الزواج ممن عرف بالزنا: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) سورة النــور. وليس ذلك فحسب, بل أعلت الشريعة شأن المحافظة على الأعراض حتى رفعت منزلة مَن مات دون عرضه إلى درجة الشهداء: "ومن مات دون عرضه فهو شهيد".
وربّت هذه الشريعة أبناءها على الغيرة، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي)2.
أما الذي لا يغار فلا خير فيه؛ إنه يسلك سبيلاً إلى النار ويبتعد بنفسه عن الجنة، بل يجعل عرضه مباحاً لكل من هبّ ودبَّ، وهذا هو الديوث، إنه الذي لا يغار على عرضه أو يعلم بفحشهم وسوء سلوكهم ويغض الطرف عن ذلك، إنه يعرض نفسه للذل والهوان، فما زال العرب والمسلمون يعظمون شأن الأعراض والحرمات فيعظمون من يدفع عن عرضه وحريمه ولو بذل في سبيل ذلك ماله وروحه:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال
أما من يتهاون في هذا الباب فإنه ساقط في الدنيا ساقط في الآخرة بعيد عن الله وعن الجنة، ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ, وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ)3.
ولا يصاب بهذا الداء العضال إلا عديم المروءة ضعيف الغيرة رقيق الدين، فتراه لا يبالي بدخول الأجانب على محارمه ولا يبالي باختلاطهنَّ بالرجال أو تكشفهنَّ.
بل يعجب المرء حين يرى هؤلاء من أشباه الرجال يشترون لنسائهم الثياب التي تكشف أكثر مما تستر، وتشف وتصف مفاتن الجسد وهو فرحٌ باطلاع الناس على عورات نسائه ومن ولاه الله أمرهن، مفاخر بتحررهنَّ من العفة والفضيلة وسيرهنَّ في طريق الفاحشة والرذيلة، ومثل هذا ميت في لباس الأحياء. يقول الغزالي رحمه الله:
"وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة"4.
وقال الذهبي رحمه الله: "من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبته فيها, أو لأن لها عليه ديناً وهو عاجز أو صداقاً ثقيلاً, أو له أطفال صغار فترفعه إلى القاضي وتطلب فرضهم فهو دون من يعرض عنه, ولا خير فيمن لا غيرة له"5.
إخواني:
إنه من المفترض في وسائل الإعلام أن تبني الشخصية المسلمة السوية, لكن الواقع المشاهد أنها من أعظم أسباب تنشئة الناس على الدياثة وضعف الغيرة بما تبثه من مشاهد جنسية فاضحة وإعلانات داعرة، وأغاني ماجنة هابطة، وتلميع هؤلاء الفاسقين والفاسقات وإبرازهم على أنهم قدوات، حتى غدت المرأة تتغنى أمام زوجها وأبيها وأخيها بحبها للمطرب أو الممثل الفلاني، دون أن يحرك أحد هؤلاء المحارم ساكناً، بل في بعض اللقاءات الإعلامية مع هؤلاء تتصل المرأة المتزوجة أو الفتاة فتفصح لهذا الفنان عن محبتها له وهيامها به، غير مبالية برد فعل الرجال من أقاربها ربما لأنها على يقين أنهم لن يعترضوا أصل6.
أيها المسلمون:
لقد أباح الله تعالى للأنبياء أن يتزوجوا بالكافرات، ولكنه لم يبح لهم أن يتزوجوا البغي؛ لأن هذه تفسد مقصود النكاح بخلاف الكافرة، ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت امرأته وأسقط عنه الحد بلعانه؛ لما في ذلك من الضرر عليه.
والذي يتزوج ببغي هو ديوث، وهذا مما فطر الله على ذمه جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، كلهم يذمون من تكون امرأته بغياً، ويشتم بذلك، ويعير به, فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك!! فهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء، فضلاً عن أفضل الشرائع7.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ عورات المسلمين في كل مكان إنه ولي ذلك والقادر عليه, والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين).
2 رواه البخاري برقم (6340) (ج 21 / ص 128) ومسلم برقم (2755) (ج 7 / ص 498).
3 رواه النسائي برقم (2515) (ج 8 / ص 342) وأحمد برقم (5904) (ج 12 / ص 441) وصححه الألباني برقم (3071) في صحيح الجامع.
4 إحياء علوم الدين لالغزالي (ج 2 / ص 359).
5 كتاب الكبائر للذهبي (ج 1 / ص 50).
6 موقع اسلام ويب
7 الفتاوى الكبرى لـ(ابن تيمية) (ج 4 / ص 127).