الاستغراق في النوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن لله في هذا الكون آيات كونية عظيمة، تدل على بديع خلقه، وحكمته وعظمته، ومن هذه الآيات: النوم، فقد جعله الله آية من آياته، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سورة الروم(23) "أي ومن الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم"1.
ومن حكمته ورحمته تبارك وتعالى بهذا الإنسان أنه جعل النهار أصلاً للسعي والعمل، وجعل الشمس سراجاً، وبالمقابل جعل الليل أصلا للراحة والنوم، وجعل القمر ضياءاً، فقال تعالى ممتناً على خلقه بذلك: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا سورة الفرقان(47). وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سورة النمل(86). وقال تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً سورة النبأ (9-11). قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في قوله: وجعلنا نومكم سباتاً أي قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام: استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة، وهو أيضاً من آيات الله؛ كما قال الله تعالى: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله سورة الروم(23). وجعلنا النهار معاشاً أي معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم، وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد2.
وكما قلنا: إن النوم آية من آيات الله فإنه لم يأتِ نص من الكتاب أو من السنة يُلزم المسلم بالنوم في ساعة معينة والاستيقاظ في أخرى، ولا نص يُلزمه بالنوم بقدر معيَّن من الساعات، بل يرجع ذلك لطبيعة عمُر الأشخاص، وحاجة أبدانهم للراحة، كما يرجع لطبيعة أعمالهم، فعامل الليل ينام في النهار أكثر مما ينامه في الليل عامل النهار، ونوم الشتاء يختلف عن نوم الصيف، وهكذا..
ولكن المعدَّل الطبيعي لنوم الإنسان يكون من (5 إلى ساعات يوميّاً، ومن نام أقل من ذلك لقدرة جسمه على التحمل، أو أكثر من ذلك لحاجة جسمه لذلك فلا حرج عليه، والمهم في الأمر في الإسلام أن يلتزم المسلم بأوقات الصلوات، فيكون فيها نشيطاً ليؤدي العبادة على وجهها الأكمل، وإذا طلب الجسد الراحة والنوم فلا ينبغي دفع ذلك عنه.
قال الشيخ محمد بن أحمد السفاريني -رحمه الله-: "لا ينبغي مدافعة النوم كثيراً, وإدمان السهر, فإنَّ مدافعة النوم وهجره مورث لآفات أُخر من سوء المزاج، ويبسه، وانحراف النفس, وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل, وتورث أمراضا متلفة.
وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، وفي "الآداب الكبرى" قال بعض الحكماء: النعاس يذهب العقل, والنوم يزيد فيه"3..
وينبغي أن يُعلم أن النوم الزائد عن حاجة البدن يسبِّب ثقلاً في الطاعة، وخبلاً في العقل، ومن هنا جاءت بعض العبارات عن السلف في ذم كثرة النوم، روي عن الثوري أنه قال: "خصلتان تقسيان القلب؛ طول الشبع، وكثرة الكلام"، وعن مكحول قال: "خصال ثلاث يحبها اللّه عزّ وجلّ وثلاث يبغضها اللّه عزّ وجلّ، فأما اللاتي يحبها: فقلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام، وأما اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النوم، فأما النوم فإن في مداومته طول الغفلة وقلة العقل ونقصان الفطنة وسهوة القلب"4.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "وأما مفسدات القلب الخمسة: فهي التي أشار إليها: من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب"5..
ثم فصل ذلك كله، ونحن ننقل هنا ما يتعلق بموضوع النوم، فقال رحمه الله: "المُفسد الخامس- أي من مفسدات القلب-: كثرة النوم؛ فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدّاً، ومنه الضار غير النافع للبدن.
وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين: قل نفعه وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران، ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؛ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس؛ فإنه أول النهار، ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
وبالجملة: فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ومن النوم الذي لا ينفع أيضاً: النوم أول الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، وكان رسول الله يكرهه، فهو مكروه شرعاً وطبعاً، وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام: من سوء المزاج، ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضاً متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به: فقد أخذ بحظه من مجامع الخير"6. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 تفسير القرآن العظيم (3/569) ابن كثير.
2 تفسير جزء عمَّ، صـ(22 - 23).
3 غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/359).
4 قوت القلوب(1/137).
5 مدارج السالكين (1/453).
6 مدارج السالكين (1/459- 460). دار الكتاب العربي – بيروت.