مفهوم إقامة الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن المفهوم الحقيقي لإقامة الصلاة: هو أداء الصلاة بأفعالها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها، والتذلل بين يدي الملك الحق- عز وجل- والتفكر فيما يقرأ من القرآن والأذكار، في مختلف أركان الصلاة، ثم أداء الصلاة مع الجماعة في بيوت الله، وإلقاء الدنيا وراء الظهور، والإقبال على الله... ثم المحافظة على الصلوات الخمس حين ينادى بهن.. هذا -تقريباً- هو المفهوم الحق لإقامة الصلاة.
وهي واضحة من خلال كلمة (أقيموا) فإن الإقامة تشمل كل ما سبق... ومن بلاغة القرآن الكريم جمعه المعاني الجليلة بلفظ موجز، قال الله: ( وأقيموا الصلاة) ولم يقل: (صلوا).
ولم ترد آية في القرآن بلفظ: (صلوا) بالأمر المجرد عن الإقامة..
وبهذا يتبين لنا أولاً: عظمة القرآن وبلاغته وقوة مصدره:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}. وثانياً: أهمية العناية بالصلاة جملة وتفصيلاً، لما اشتملت عليه كلمة (أقيموا) من المعاني العظيمة.
ومما سبق يتضح أن المقصود بإقامة الصلاة الآتي:
1. المحافظة على شروطها: من طهارة، واستقبال للقبلة، ورفع للأحداث والأنجاس.. والطهارة: طهارة المكان والثوب، ولهذا يقول -تعالى-:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. وقال -تعالى-:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}،وقال:{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمرأة: ( اغسلي عنك الدم وصلي)1 أمراً لها بالطهارة. وأما التوجه إلى القبلة فقد قال -تعالى-: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وأما رفع الحدث فهو من شروط الصلاة، ولهذا أمر الإنسان برفع الحدث، والحدث أصغر وهو ما يرفعه الوضوء، وأكبر وهو ما لا يرفعه إلا الغسل، ولكل نواقض. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)2 وأمر الرسول بالوضوء.. وقد جاء في الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ..).
2. ومن إقامتها المحافظة على ركوعها وسجودها بمعنى: أن لا ينقرها نقراً كنقر الغراب الدم، وأن يسوي ظهره في الركوع، فلا يرفعه ولا يخفضه، وأن يعتدل بدون كسل ولا ملل، وألا يقعي كإقعاء الكلب، ولا يسجد على ذراعيه، ولكن على كفيه، وأن يضع جبهته على الأرض، ولا ينقرها نقراً، وأن لا يكثر من الحركات، أما الالتفات لغير حاجة ماسة فهو يبطلها.
3. ومن إقامتها المحافظة على خشوعها: والخشوع هو لب الصلاة، وهو المقصود منها، ولهذا نبه النبي- صلى الله عليه وسلم- على هذا الأمر، وأكثر من التركيز عليه فقال: " إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته, تسعها, ثمنها, سبعها,سدسها, خمسها، ربعها, ثلثها, نصفها " رواه أحمد وحسّنه الألباني . يا ترى لماذا حرم هذا الثواب؟!! إنه التفاوت في الخشوع والتفكر والخضوع..
وإذا كان الخشوع هو لب الصلاة وأهمها، فإننا سنذكر بعض معاني الخشوع في الصلاة: فمنه: طول القنوت والقيام، فكلما أطال الإنسان الصلاة والقيام فيها، دل ذلك على خشوعه فيها، وإذا رأيته ينقرها نقراً، فهو دليل على أنه يريد أن يخرج منها بأسرع وقت، إما لانشغاله بغيرها، أو لكونه لا يصليها إلا عادة، أو خوفاً من أحد، أو مجاملة لغيره. ولهذا فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت). رواه مسلم وغيره، وفي رواية (طول القيام) رواه أحمد وهو حديث حسن.
ومن الخشوع: التفكر في معاني الآيات، وماذا يراد منها، والتفاعل معها، والبكاء من خشية الله، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمر بآية فيها تخويف أو تعظيم لله إلا كررها. رواه مسلم. وكان رسول الله أيضاً: لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، وإذا مر بآية فيها تسبيح لله سبح). فهذا هو الخشوع والتفكر.. وكان- النبي صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة يسمع في صدره كأزيز المرجل – أي كالماء عندما يغلي أو نحوه-... فسبحان الله!! هذا رسول الله يقيم الصلاة بخشوعها وأركانها، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا نحن لا نرعوي، ولا ننزجر!! يأتي الواحد منا إلى الصلاة وقلبه مشغول هنا وهناك، لا يدري متى ابتدأ فيها، ولا يعلم إلا وقد انتهى... يا أمة محمد! والله ما ضاعت الأمة في آخر أزمانها إلا لما قطعت الصلة الوثقى مع الله!!. كثير منا لا يصلي، والذي يصلي صلاته لو عرضت على الحداد لردها وأباها، فكيف بالرب العلي الكبير!؟ ولهذا يقول الله عن أهم شيء في الصلاة:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1-2) سورة المؤمنون، فذكر الخشوع بالذات لأهميته وكونه هو المقصود.
4. ومن إقامة الصلاة: المحافظة عليها في أوقاتها مع جماعة المسلمين، كما قال –تعالى-:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (103) سورة النساء ، وقال –تعالى-:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (238) سورة البقرة ، ومن المحافظة عليها وإقامتها: ترك الشواغل إذا نودي للصلاة، قال –تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (9) سورة الجمعة.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون مع أهله، فإذا نودي للصلاة قام كأن لم يعرف أحداً.
بهذا تكون الإقامة الحقيقية، وبهذا يكون المفهوم الحق لإقامة الصلاة.. فليس المراد منا فقط أن نقوم ونركع ونسجد، وقلوبنا ذاهبة كل مذهب، ونحن معرضون عن الرب، ثم نسلم وكأننا ما دخلناها... فإلى الله المشتكى، وإليه نرغب في كل أحوالنا وأمورنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1- رواه البخاري ومسلم من حديث فاطمة بنت أبي حبيش- رضي الله عنها-.
2- رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.