يتعرّض شبابنا اليوم إلى كم هائل من مخطّطات التحريف والتزييف والغزو الفكري, وشتّى أنواع المغريات التي تستهدف عقيدتهم السليمة، ومبادئ الإسلام الأصيلة, والتزامهم بنهج النبوة, الذي سار عليه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام, فاستطاع من خلالها أن ينشر رسالة الدين النبيلة في الآفاق, وانجذبت إليه الأمم في كل أصقاع الأرض, بشكل طوعي وقناعة وحب ومعرفة بهذا الدين العظيم.
الأمة الإسلامية خلال تاريخها الطويل, أنجبت نماذج كثيرة من الشخصيات والأبطال العظام, الذين خلّدهم التاريخ, وسطّر أمجادهم بأحرف من نور, حملوا لواء الإسلام ونشروا رسالته الحضارية, بين الأمم وهم يسيرون على هدي القرآن الكريم وعلى نهج النبوة الشريفة، متمثّلين أخلاق الرسول الكريم وخصاله الحميدة, وحكمته وحلمه وشجاعته وكرمه وصدقه... فكان القدوة الحسنة لأصحابه ولجميع المسلمين إلى يوم القيامة؛ قال الله تعالى في كتابه العزيز: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...) سورة الأحزاب /22 /
وسيرة أبطال الإسلام غنية بالعبر والعظات والدروس التي لا تنفد، وكانوا قدوة ومثالاً يحتذي بهم الشباب على مر العصور, يهتدون بنهجهم وفكرهم وسلوكهم وخلقهم.
وشبابنا اليوم بأشد الحاجة إلى هذه السيرة البطولية وقيمها ومعانيها السامية والاستفادة من نهجها، لتنير طريقهم وترشدهم إلى جادة الصواب.
جيل الشباب العربي والمسلم اليوم تتزايد عليه الضغوط وتتعاظم بشتى الوسائل الدعائية التجارية, وأحدث التقنيات الإعلامية الاستهلاكية, المرئية والمسموعة والمقروءة, التي تحاول أن تعيد تكوينه العقلي والنفسي والعاطفي، وتحدّد له اتجاهاته الفكرية والثقافية بالطريقة التي تخدم مصالح أعداء الإسلام والإنسانية, فتصور له البطولة في هذا العصر أنها تقوم على أساس القوة والعنف والقتل والتدمير, مشوّهين بهذا صور البطولة الحقيقية التي ترتكز على القيم التي جاءت بها رسالة الإسلام السامية, وبعدها الإنساني الذي يقوم على الدعوة إلى الدين القويم بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة والإقناع والعقل والمنطق والعلم.
هذه المضامين والمعاني البطولية الحقيقية, أبرزت شجاعة أبطال الإسلام وجرأتهم على نصرة الدين والحق، وتحقيق العدل والمساواة بين الناس, وضبط النفس في أحلك الظروف وأصعب المواقف, فالبطولة في الإسلام, نهج وعقيدة والتزام ومبادئ, وليست ردود أفعال تقوم على القسوة والحقد والكراهية والانتقام مهما كانت مسوغات هذه الأفعال, التي يسميها بعض المُغرّر بهم (بطولة وجهاداً)، وهم بهذا يسيؤون إلى جوهر الدين ورسالته العظيمة ومبادئه السامية, التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله "ليس الشديد بالصرعة, إنما
الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(1)
ولنا في رسول الله أسوة حسنة في التسامح والعفو عند المقدرة, فمنذ بدء الدعوة الإسلامية تعرّض عليه الصلاة والسلام للأذى الشديد في الطائف, فنزل جبريل عليه السلام، وعرض عليه أن يطبق الجبال على أهل الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك وقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.(2)
وعند فتح مكة ـ رغم كل الأذى والعذاب والحرب الشعواء, التي شنها المشركون على المسلمين ـ وتمكّن النبي من أهلها, عفا عنهم وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وأبطال الإسلام تتلمذوا على نهج النبي وخلقه, فكانوا مثالاً ناصعاً, وقدوة حسنة في جهادهم وغزواتهم, وأرحم الفاتحين على وجه الأرض, كما فعل البطل صلاح الدين الأيوبي ، عندما أعاد فتح بيت المقدس من المحتلين الصليبيين, الذين نكّلوا بأهله المسلمين، وقتلوا وسفكوا الدماء البريئة, عفا عنهم وأطلقهم, وصان المقدسات المسيحية من العبث.
وتتنوع صور البطولات في الإسلام بين القوة والشجاعة والإقدام والصبر والحكمة والعفو والحلم, عندما تستدعي الحاجة ذلك, كما في شجاعة وثبات النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين, مع ثلّة قليلة من أصحابه الشجعان, حتى كتب الله لهم النصر.
هذا النهج البطولي, سارع إليه معظم المسلمين عند داعي الجهاد, فكان يتسابق إليه المسلمون، وهم يضعون نصب أعينهم خيارين لا ثالث لهما، هما: النصر أو الشهادة. فمن صور هذه البطولات ما روي في إحدى الغزوات: أن ابناً وأباه تنافسا على الخروج إلى الجهاد, فاقترعا بينهما, فوقعت القرعة على الابن، فطلب الأب من ابنه أن يدعها له, فقال: إنها الجنّة يا أبت, ولو كان شيئاً غيرها لآثرتك بها.
و(عمر بن الجَموح) كان أعرجَ وقد أعفاه الله تعالى من الجهاد ومنعه أبناؤه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن بَنِيَّ يمنعونني أن أجاهد معك, ووالله إني لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه الجنة. وخرج مع الرسول في معركة أحد واستشهد فيها.
ويوم تبوك, شهد وجهاً آخر لبطولات الصحابة رضي الله عنهم, في الإنفاق على تجهيز الجيش, فقدّم أبو بكر كل ماله, وعمر بن الخطاب نصفه، وجهّز عثمان ثُلُث الجيش, وعبد الرحمن بن عوف قدّم مِائَتي أوقية, وبذل غيرهم الكثير.
والبطولة أيضاً موقف واعتراف والتزام بالحق, وتراجع عن الخطأ, وهذا ليس بالأمر السهل, وخاصة عندما يكون الرجل في أعلى مراتب السلطة, لكن الخليفة عمر بن الخطاب صاحب الحق والعدل في الإسلام, لا يجد غضاضة ولا انتقاصاً من قدره, عندما يتراجع عن الخطأ ويلتزم جانب الحق, فقد كان من رأي عمر أن يحدّد مهر النساء, فسكت عنه الجميع إلاّ امرأة شجاعة, بيّنت له خطأ موقفه, وذكّرته أن المهر حق للمرأة أعطاها الله تعالى إيّاه تكريماً لها, فقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة. (3 )
هذه المواقف والصور البطولية لرجال الإسلام التي ذخرت فيها ذاكرة التاريخ, تعيش في فكر ووجدان وضمير شبابنا المؤمن اليوم, لأن الوجدان الحي يتخطّى الزمن مهما طال, ويخترق المسافات مهما بعدت, ليستعيد ذكرى الأبطال ومواقفهم, ويعيشَ معهم ويتمثلَ نهجهم، ويقتديَ بسلوكهم, ويستلهم أنوارهم, ويستمدَّ منهم القوة على الصبر وتجاوز العقبات, ويجد فيهم الأسوة والسلوى والعزاء والأنس.
فالشاب المؤمن - من خلال التزامه وسلوكه وقيمه، وسَيْرِهِ على طريق النبوة والصحابة والصالحين، والشهداء من أبطال الإسلام - يعيش معهم، ويسكنون في قلبه ووجدانه ويتمثّلهم في أفعاله، ويكون بصحبتهم في الآخرة, كما أخبر تعالى في كتابه العزيز : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) . سورة النساء /69/
والأبطال الحقيقيون هم أصحاب الرسالات الكبرى والغايات الإنسانية السامية, الذين يجمعون الناس على الحق والقيم النبيلة, أما الأبطال المزيفون (الدونكيشوتيون) هم الذين يجمعون الناس حولهم، ويثيرون غرائزهم، ويرضون أهواء الشباب، ويحققون رغباتهم بالظهور، وبناء الأمجاد الذَّاتيّة، والبطولات المزيَّفة, تساعدهم في ذلك إمكاناتهم المادية وأجهزة الإعلام التجارية, التي يُفتتن بها الشباب اليوم وتبهرهم أضواؤها, فيتهورون في الانجرار وراءها, وتقليدها دون قصد ولا إدراك لقوة تأثيرها النفسي على عقلهم الباطن, فتكوّن لديهم اتجاهات وقيماً ومثلاً مشوهة, تنعكس على تكوين شخصيتهم وسلوكهم ومستقبل حياتهم.
والمؤسسات الإعلامية التجارية المرئية تقدم للشباب اليوم, نماذج مُتدنّية للشخصيات والأبطال في المسلسلات والبرامج التلفزيونية وكتب القصص، وخاصة الخيالية منها, فتعتمد هذه الشخصيات على مرتكزات القوة والعنف ومبدأ (الغاية تبرر الوسيلة), مثل شخصيات (سوبرمان ـ هالك ـ كراندايزر ـ طرزان ـ شمشون ـ زورو ـ رجال الفضاء ـ رجال العصابات والحروب ...) ومجموعة لا تحصى من أمثال هذه النماذج التي تمثل الخير المطلق, مقابل الشر المطلق, الذي ينتصر فيها الخير دائماً، لكن بعد سلسلة هائلة ومخيفة من أعمال العنف والقسوة والقتل والتدمير وسفك الدماء, رغم الإدانات الكلامية في القصة لهذه المواقف, فإن الفتيان يتأثرون بسلوك هذه النماذج, دون الالتفات إلى عبارات الإدانة الكلامية.
وسلوك هذه الشخصيات البطولية, يخالف كل القيم الدينية والمبادئ الإنسانية والأعراف الاجتماعية والمدنية, التي تدعو إلى احترام القوانين والأنظمة، والخضوع للسلطات والمرجعيات الدينية والاجتماعية، واللجوء إلى القضاء لحل المشكلات والنزاعات لتأخذ العدالة مجراها, وألاّ يقوم الفرد بفضّ النزاع وإبرام الحكم وتنفيذه بنفسه، كأنه يمثّل كل السلطات.
البطل ذو القوة الخارقة يحدّد الخير والشر, ويحكم بنفسه, وينفذ الحكم على المخالفين للقانون من وجهة نظره الشخصية، وهذا يشيع الفوضى في المجتمعات البشرية.
أفلام (الكاوبوي) الأمريكية تعطي الرجل الأبيض المهاجر الحق بأن يبيد السكان الأصليين من الهنود الحمر، ويقتلهم كما يقتل الحيوانات.
وقصص (طرزان) تبيّن التفوق الساحق للرجل الأبيض على الرجل الإفريقي الأسود البدائي, وأن البطل الأبيض هو الأصلح والأقوى والمتحضر, صاحب العقل والعلم والحضارة, بين جماعات متوحشة, غبيّة, تعيش مع الحيوانات في الغابة.
وتستغل المؤسسات الصهيونية هذا النهج البطولي العنصري وإسقاطاته المشبوهة المخالفة للقيم الإنسانية والأخلاق والقانون, لتسويغ ممارساتها الوحشية وإبادة الشعب الفلسطيني, وتشريده, وتشويه صورة العرب بتصويرهم كأقوام متوحشين متخلّفين، وعقبة أمام التطور والتقدم، يجب على الرجل الصهيوني المتحضّر التخلص منهم!!!
فالإعلام والأدب الواعي ينمّي مدركات الشباب الخيالية, وتذوقهم الجمالي ويؤصل في نفوسهم القيم الإنسانية الأخلاقية والدينية الصالحة, ويحدّد لهم اتجاهات فكرية وثقافية واعية, تقوم على أسس من الروح الجماعية والتعاون ومشاعر الحب النبيل، ويطور لديهم حالة التمركز حول الذات إلى الفضاءات الإنسانية, ومن التفكير بتحقيق المتع والأهواء الشخصية إلى المشاركة الوجدانية للآخرين في آلامهم ومعاناتهم وبؤسهم، وتقديم العون لهم بشتى الوسائل الممكنة للتخفيف من آلامهم.
إن أهم أهداف الأدب التربوي، هو تدريب جيل الشباب على مواجهة مشكلاتهم الحياتية وتزويدهم بالمهارات اللازمة لحلها، عن طريق العقل والحكمة والقانون والتشريعات الدينية والأعراف الاجتماعية, واستبعاد أساليب القسوة والعنف والقوة الشخصية, والانتقام وردود الفعل في حلها, وخلق جيل من الشباب واعٍ ملتزم، اجتماعي متعاون, يتجاوز مشكلاته ويواجه مخاوفه وقلقه وضياعه ويتغلّب عليها, ويسهم في تحقيق الغايات الإنسانية الكبرى في هذه الحياة.
لقد عانت أجيالنا طويلاً من عهود الاستعمار والتخلف والجهل والاضمحلال الفكري، وفقر الوعي العلمي، وجدب المشاعر وتشويه الخيال, وتأثّرت كثيراً بالقصص الخرافية، والخوف وحكايات الأغوال والعفاريت والجن والسحر والشعوذة, والأشباح التي طاردت الأطفال في الليالي المعتمة، وفراش النوم فأقضَّت مضاجعهم، وجعلتهم يؤمنون بقوى غيبية خارقة للطبيعة، والمصادفات الغريبة، ويتواكلون عليها في حل مشكلاتهم.
في العصور الأخيرة افتقدت الأمة الإسلامية, أبطالها وشخصياتها العظيمة, وافتقرت إلى العلماء الكبار القدوة, والنماذج الحيّة، التي تمثل أصالة الإسلام علماً وسلوكاً, ونهج البطولة الحقيقية، التي تدفع الناس للاقتداء بهم, وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلّم من هذا المصير بقوله : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء
جهالاً, فسئلوا , فأفتوا بغير علم, فضلّوا وأضلّوا"(4)
الشباب المؤمنون هم الذين يتمثلون نهج البطولة الحقيقية, والنماذج البطولية الفذة, يعيشون من أجل تحقيق رسالة كبرى وهدف رفيع ومثل عليا, ويكرّسون حياتهم في سبيلها, ويضعون نصب أعينهم, الوصول إلى الكمال قدر جهدهم.
ـــــــــــ
هوامش :
1- رواه الشيخان في الصحيحين .
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام.
3- للاطلاع على مزيد من صور البطولات في الإسلام : انظر ( رجال حول الرسول) لخالد محمد خالد و(حياة الصحابة) للشيخ محمد الكاندهلوي .
4- رواه الشيخان في صحيحهما والترمذي