قصة الغرانيق
الغرانيق العلا :
حديث الغرانيق أورده ابن سعد في طبقاته الكبرى و الطبري في تاريخ الرسل و الملوك كما أورده كثير من المفسرين المسلمين و كتاب السيرة و الذي أخذ به جماعة من المستشرقين ووقفوا يؤيدونه طويلاً
و حديث الغرانيق ان النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى تجنب قريش اياه و أذاهم أصحابه تمنى فقال : ليته لا ينزل علي شئ ينفرهم مني و قارب قومه و دنا منهم و دنوا منه فجلس يوماً في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى : " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" – النجم 19,20 فقرأ بعد ذلك : تلك الغرانيق العلا و إن شفاعتهن لترتجى ثم مضى و قرأ السورة كلها و سجد في آخرها و هنالك سجد القوم جميعاً و لم يتخلف منهم أحد و أعلنت قريش رضاها عما تلا النبي صلى الله عليه و سلم و قالوا : قد عرفنا أن الله يحي و يميت و يخلق و يرزق و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده أما إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك و بذلك زال وجه الخلاف بينه و بينهم
وفشا الامر في الناس حتى بلغ الحبشة فقال المسلمون بها : عشائرنا أحب الينا و خرجوا راجعين فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركباً من كنانة فسألوهم فقالوا : ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم فعادوا له بالشر و أتمر المسلمون ما يصنعون فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبراً فدخلوا مكة
و تقول الروايه المفتراة : انما أرتد محمد صلى الله عليه و سلم عن ذكر آلهة قريش بالخير لأنه كبر عليه قول قريش : أما إذ جعلت لآلهتنا نصيباً فنحن معك و لانه جلس في بيته حتى إذا امسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض النبي صلى الله عليه و سلم سورة النجم فقال جبريل عليه السلام : أوجئتك بهاتين الكلمتين؟ مشيراً إلى " تلك الغرانيق العلا و إن شفاعتهن لترتجى" فقال النبي صلى الله عليه و سلم : قلت على الله ما لم يقل ثم أوحى الله اليه : وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً {73} وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً {74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً {75} – سورة الإسراء الآيات من 73 الى 75 و بذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر و يسبهم و عادت قريش لمناوأته و إيذاء أصحابه
تهافت حديث الغرانيق :
و حديث الغرانيق رواه غير واحد من كتاب السيرة و أشار اليه غير واحد من المفسرين ووقف عنده كثير من المستشرقين طويلاً و هو حديث ظاهر التهافت ينقصه قليل من التمحيص ليفضح كذبه و هو بعد حديث ينفض ما لكل نبي من العصمة في تبليغ رسالات ربه فمن العجب أن يأخذ به يعض كتاب السيرة و بعض المفسرين المسلمين و لذلك لم يتردد ابن اسحاق رضي الله عنه حين سئل عنه في ان قال : إنه من وضع الزنادقة
حجج مؤيديه :
ولكن يعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه فاستندوا الى الآيات : وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ – سورة الإسراء الآيه 73 و قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ – سورة الحج ايتا 52 و 53
و يفسر بعضهم كلمة "تمنى" في الآية بمعنى قرأ و يفسرها آخرون بمعنى الأمنية المعروفة و يذهب هؤلاء و أولئك و يتابعهم المستشرقون الى أن النبي صلى الله عليه و سلم بلغ منه أذى أصحابه إذ كانوا يقتلون بعضهم و يلقون بعضاً في الصحراء يلفحهم لظى الشمي المحرقة وقد أوقروهم بالحجارة كما فعلوا ببلال رضي الله عنه حتى أضطر الى الإذن لهم في الهجرة الى الحبشة كما بلغ منه جفاء قومه إياه و غعراضهم عنه
و لما كان حريصاً على إسلامهم و نجاتهم من عبادة الأصنام تقرب إليهم و تلا عليهم سورة النجم و أضاف اليها حكاية الغرانيق فلما سجد سجدوا معه و أظهروا له الميل لاتباعه مادام قد جعل لآلهتهم نصيباً مع الله
و يضيف سير وليم موير الى هذه الرواية التي وردت في بعض كتب السيرة و كتب التفسير حجة يراها قاطعة بصحة حديث الغرانيق ذلك أن المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة لم يك قد مضى على هجرتهم اليها غير ثلاثة أشهر أجارهم النجاشيؤأثناءها و أحسن جوارهم فلو لم يكن قد ترامى اليهم خبر الصلح بين قريش و محمد صلى الله عليه و سلم لما دفعهم دافع الى العودة حرصاً على الاتصال بأهلهم و عشائرهم و أنى يكون الصلح بين محمد صلى الله عليه وسلم و قريش إذا لم يسع محمد صلى الله عليه و سلم اليه و قد كان في مكة أقل نفراً و اضعف قوة و قد كان أصحابه اعجز من أن يمنعوا انفسهم من أذى قريش و من تعذيبهم إياهم
دفع هذه الحجج
أولاً : أسباب عودة المهاجرين من الحبشة
1- إسلام عمر رضي الله عنه :
هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون يصحة حديث الغرانيق و هي حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص و نبدأ بدفع حجة المستشرق موير فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة إنما دفعهم الى العودة الى مكة سببان أولهما إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أسلم بعد هجرتهم بقليل
و قد دخل عمر في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها لم يخف إسلامه و لم يستتر بل ذهب يعلنه على رؤوس الملأ و يقاتلهم في سبيله و لم يرض عن استخفاء المسلمين و تسللهم الى شعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن أذى قريش بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة و صلى المسلمون معه
هناك أيقنت قريش أن ما تنال به محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه من الأذى يوشك أن يثير حرباً أهلية لا يعرف أحد مداها و لا على من تدور دائرتها فقد أسلم من قبائل قريش و بيوتاتها رجال تثور لقتل أي واحد منهم قبيلته و ان كانت على غير دينه فلا مفر إذاً من الالتجاء في محاربة محمد صلى الله عليه و سلم الى وسياة لا يترتب عليها هذا الخطر و الى ان تتفق قريش على هذه الوسيلة هادنت المسلمين فلم تنل أحداً منهم بأذى و هذا هم ما اتصل بالمهاجرين الى الحبشة و دعاهم الى التفكير في العودة الى مكة
2- ثورة الحبشة :
و ربما ترددوا في العودة من الحبشة لولا السبب الثاني ذلك ان الحبشة شبت بها يومئذ ثورة على النجاشي كان دينه و كان ما أبدى من عطف على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت إليه
و لقد ابدى المسلمون أحسن الاماني ان ينصر الله النجاشي على خصومه لكنهم لم يكونوا ليشلركوا في هذه الثورة و هم أجانب و لم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل أما و قد ترامت غليهم انباء الهدنة بين محمد صلى الله عليه و سلم و قريش هدنة انجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم و ان يلحقوا بأهليهم و هذا ما فعلوه
على انهم ما كادوا يبلغون مكة حتى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد و اصحابه و اتفقت عشائرهم و كتبوا كتاباً تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة فلا ينكحوا اليهم و لا ينكحوهم و لا يبيعوهم و لا يبتاعوا منهم وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان بين الفريقين و رجع الذين عادوا من الحبشة و ذهب معهم من استطاع اللحاق بهم و قد وجدوا هذه المرة عنتاً من قريش إذ حاولت ان تمنعهم من الهجرة
ليس الصلح الذي يشير اليه المستشرق موير هو إذا الذي دعا المسلمين الى العودة من بلاد الحبشة إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر رضي الله عنهو حماسته في تأييد دين الله تعالى فتأييد حديث الغرانيق إذا بحجة الصلح تأييد غير ناهض
ثانياً : الاحتجاج بالآيات مقلوب :
أما احتجاج المحتجين من كتاب السيرة و المفسرين بالآيات : وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ – سورة الإسراء الآيه 73 و قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ – سورة الحج آيتا 52 و 53 فهو احتجاج اشد تهافتاً من حجة السير موير و يكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى : وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً - سورة الإسراء آية 74 لنرى انه إن كان الشيكان قد ألقى في امنية النبي صلى الله عليه و سلم حتى لقد كان يركن إليهم شيئاً قليلاًفقد ثبته الله تعالى فلم يفعل و لو انه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة و ضعف الممات .
و إذاً فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب فقصة الغرانيق تجري بأن محمد صلى الله عليه و سلم ركن الى قريش بالفعل و ان قريش قتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل و الآيات هنا تفيد أن الله تعالى ثبته فلم يفعل فإذا ذكرت كذلك ان كتب التفسير و أسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعاً غير مسألة الغرانيق رأيت ان الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم و تتنافى مع تاريخ محمد صلى الله عليه و سلم كله احتجاج متهافت بل احتجاج سقيم
أما الآيات : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى...فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة فضلاً عن ذكرها ان الله ينسخ ما يلقي الشيطان و يجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم و يحكم الله آياته و الله عليم حكيم
ثالثاً : تهافت القصة علميا ًو تعدد الروايات فيها :
و ندع هذا الى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها و اول ما يدل على ذلك تعدد الروايات فيها فقد رويت كما سبق القول على أنها : تلك الغرانيق العلا و ان شفاعتهن لترتجى
و رواها بعضهم : الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى
و روى آخرون : إن شفاعتهم ترتجى دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق
و في رواية رابعة : و انها لهي الغرانيق العلا
و في رواية خامسة : و انهن لهن الغرانيق العلا و ان شفاعتهم لهي التي ترتجى
وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات اخرى غير هذه الروايات الخمس و هذا التعدد في الروايات يدل على ان الحديث موضوع و انه من وضع الزنادقة كما قال ابن اسحاق و ان الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد صلى الله عليه و سلم رسالات ربه
رابعاً : سياق سورة النجم يأباها :
و دليل آخر أقوى و أقطع ذلك سياق سورة النجم و عدم احتماله لمسألة الغرانيق فالسياق يجري بقوله تعالى : لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18} أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى {20} أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى {21} تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى – سورة النجم ايات من 18 الى 23
و هذا السياق صريح في أن اللات و العزى أسماء سماها المشركون هم و آباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان فكيف يحتمل ان يجري السياق بما يأتي : أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الاخرى تلك الغرانيق العلا ان شفاعتهن لترتجى ألكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قصمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان
إن في هذا السياق من الفساد و الاضطراب و التناقض و من مدح اللات و العزى و مناة الثالثة الآخرى و ذمها في أربع آيات متعاقبة ما لا يسلم به عقل و لا يقول به إنسان و لا تبقى معه شبهة في ان حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغايتهم وصدقه من يسيغون كل غريب و من تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقي
خامساً : الحجة اللغوية :
وحجة أخرى ساقها المغفور له بإذن الله تعالى الأستاذ محمد عبده حين كتب يفند قصة الغرانيق تلك ان وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم و لا في خطبهم و لم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم و إنما ورد الغرنوق و الغرنيق على أنه إسم لطائر مائي أسود أو أبيض و الشاب الأبيض الجميل و لا شئ من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفهم عند العرب
سادساً : صدق محمد صلى الله عليه و سلم يأبى صحة القصة :
بقيت حجة قاطعة نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد صلى الله عليه و سلم نفسهفهو منذ طفولته و صباه و شبابه لم يجرب عليه الكذب قط حتى سمي الأمين و لما يبلغ الخامسة و العشرين من عمره و كان صدقه أمراً مسلماً به عند الناس جميعاً حتى لقد سأل قريشاً يوماً بعد بعثه : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني ؟
فكان جوابهم : نعم أنت عندنا غير متهم و ما جربنا عليك كذباً قط
فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة أظافره الى كهولته كيف يصدق إنسان أنه يقول على ربه ما لم يقل و يخشى الناس و الله أحق أن يخشاه هذا أمر مستحيل يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القوية الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق و لا تداجي لأي اعتبار و كيف ترى يقول محمد صلى الله عليه و سلم : لو وضعت قريش الشمس في يمينه و القمر في شماله على ان يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل ثم يقول على الله ما لم يوح إليه و يقوله لينقض به أساس الدين الذي بعثه الله ب هدى و بشرى للعالمين
ومتى رجع الى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنين أو نحوها من بعثته و بعد ان أحتمل هو و اصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى و صنوف التضحية ما احتمل و بعد ان أعز الله تعالى الإسلام بحمزة و عمر و بعد ان بدأ المسلمون يصبحون قوة بمكة و يمتد خبرهم الى بلاد العرب كلها و الى الحبشة و الى مختلف نواحي العالم و ان القول بذلك الحديث خرافة و أكذوبة ممجوجة
و لقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها فأرادوا سترها بقولهم : إن محمداً ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيباً في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه و حتى رجع الى الله تائباً اول ما امسى ببيته و جاءه جبريل عليه السلام فيه لكن هذا الستر أحرى ان يفضحها فما دام الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش فما كان أحراه أن يراجع الوحي لساعته و ما كان أحراه ان يُجري الوحي الصواب على لسانه ؟
و اذاً فلا أصل لمسألة الغرانيق إلا الوضع و الاختراع قامت بهما طائفة الذين أخذوا انفسهم بالكيد للإسلام بعد إنقضاء الصدر الأول
سابعاً : إفتراء على التوحيد :
وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للإفتراء في أمّ مسائل الإسلام جميعاً : في التوحيد في المسألة التي بعث محمد صلى الله عليه و سلم لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى و التي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة و لا أماله عنها ما عرضت عليه قريش ان يعطوه ما يشاء من مال أو يجعلوه ملكاً عليهم و عرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتبعه من أهل مكة إلا عدد يسير
و ما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس فاختيار المفترين لهذه المسلة التي كانت صلابة محمد صلى الله عليه وسلم فيها غاية ما عُرف عنه من الصلابة يدل على جرأة غير معقولة و يدل في الوقت نفسه على ان الذين مالوا الى تصديقهم قد خُدعوا فيما لا يجوز أن يُخدع فيه أحد
و لا أصل إذا لمسألة الغرانيق على الإطلاق و لا صلة البتة بينها و بين عودة المسلمين من الحبشة غنما عادوا كما قدمنا بعد أن أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه و نصر الإسلام بمثل الحمية التي كان يحاربه من قبل بها حتى أضطرت قريش لمهادنة المسلمين و عادوا حين شبّت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها فلما علمت قريش بعودتهم ازدادت مخاوفها ان يعظم أمر محمد صلى الله عليه و سلم بينهم فأتمرت ما تصنع و قد انتهت بوضع الصحيفة التي قرروا فيها فيما قرروا ألا ينكحوا بني هاشم و لا يبايعوهم و لا يخالطوهم كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمداً صلى الله عليه و سلم إن استطاعوا
المراجع
من كتاب حياة محمد صلى الله عليه و سلم - للأستاذ : محمد حسين هيكل