موقف المفكرين في حرب الصهيونية
أما هذه الملحمة بيننا وبين الشعب اليهودي الذي أحذر خطره، وأحذر الناس إياه فأنا فيها كما قال الحارث بن عبادة الزعيم الجاهلي:
"لم أكن من جناتها علم الله واني بحرها اليوم صالي"
وأما مكاني منها فهو مكان الغيور على الانسانية أن يستهان بحرمانها وقيمنها مهما يكن الباعث أو الوسيلة أو الغاية من هذه الاستهانة، فإن العالم كله لأهل للعنة والهوان، إذا تواطأ بهما على الاستهانة بكرامة انسان واحد أو القسوة على حيوان واحد، فكيف لا يغضب أهل الخير والمروءة حين تتواطأ شرذمة من البشر قلت أو كثرت كما يتواطأ اليهود على الاستهانة بسائر الأمم واحتقارها وإهدار كيانها وحياتها جملة، لا لباعث الا الكبرياء والأثرة التي تملي لليهود أن يعتقدوا انهم شعب الله المختار، ,ان سائر الأمم متاع لهم لا قيمة له الا بقدر ما ينفع اليهود أغلظ أنواع المنفعة.
والله يعلم أنني لا أجاهد الخطر اليهودي الا عن غيرة انسانية قبل أن أجاهده عن غيرة قومية أو غيرة دينية، وليس بيني وبين هذا الشعب ترة شخصية، فما أعرف أحداً منه نالني بسوء خاص، بل أراني مديناً بحظ من الفضل لم تلقيت دروسهم أو قرأت كتبهم من أبنائه، كما أرى الأمم مدينة له ببعض ما علم وعلم، وإن كنت أرى أن حظه فيما أخذ منها في عالم الثقافة أضعاف ما اعطاها، وأكبر من ذلك ما أخذ منها في عالم الحضارة ولم يعطها قط الا حظاً لا يؤبه به في كثير ولا قليل، فقد كان الشعب اليهودي منذ ظهر عالة على من حوله من الأمم في كل وجوه النشاط الثقافية والحضارية كما كان عالة عليها في اكتساب الرزق والحماية.
وليس هتافي هنا بالخطر اليهودي صيحة حرب مؤقتة فحسب بسبب الصراع القائم بيننا وبينه اليوم، ولا صيحة موتور فحسب من صراع سابق أثارها صراع اليوم، بقدر ما اعد هتافي به صيحة انسانية من خطر دائم لا سلام معه ولا راحة منه للعالم الا ان يغير هذا الشعب ما بنفسه من آثار تعاليمه الهمجية كما دلت عليها مواقفه العدائية الشريرة تجاه سائر الأمم في تاريخه الطويل، وانه لتاريخ باك ومبك بما جناه على نفسه بما في نفسه من بغضائه الأمم وسعيه في خرابها وفقاً لروح تعاليمه الشيطانية ونصوصها الفاضحة.
ونستطيع أن نجمل ما بنفس هذا الشعب تجاه سائر الأمم، بأنهما ينظر إليها نظرة "شيئية" كأن هذه الأمم أشياء جامدة لا حس لها ولا ارادة ولا فهم، فليس لها أدنى حظ من كرامة ولا حق، وهذه النظرة أو الفلسفة "الشيئية" تهدر حرمة الانسانية بل حرمة الحياة أو الحيوانية، وهي أحط من نظريتنا نحن إلى الحيوانات، لأن نظرنا إليها أخلاقي، فنحن نشعر دائماً بالعطف عليها، ونوجب غالباً على انفسنا البر بها وهذا يحملنا على أن نعرف لها حرمة الحياة ولو كانت أبدة أو مفترسة، فان نؤذيها بلا ضرورة، ولا نقسو عليها عند احرج الضرورات حتى نتأتم ونغتم. والندم من آيات التقوى، وبه تطهر النفوس.
وأن نظرتنا إلى الحيوانات الاجتماعية الداجنة التي طال الفنا لها ـ فصرنا وإياها نتبادل الشعور والفهم ـ لهي نظرة أعلى من ذلك، لأنها تجاوز بنا العطف إلى المودة، وترتفع من البر إلى أفق الشعور بالوشائج النفسية الحية بيننا وبينها كأنها صداقة نفوس أو قرابة لحم ودم.
ونظرتنا هذه أو تلك إلى الحيوانات آنسها وآبدها أنبل وأكبر إنسانية من نظرة اليهود ان ندعوها كنظرتهم "شيئية" وان لم تبلغ نظرتنا إلى انس الحيوانات وآبدها أن تكون تناسخية أو برهمية في التقديس أو العبادة، ولا أن تكون صوفية كنظرة بعض القديسين وهو يناجي الطير فيدعوه "أخي" إذ يشعر له في عمق بصيرته وسعة روحه وصفاء عنصره بوشائج الرحم الحية البعيدة بينه وبين الطير.
بل أن نظرتنا إلى كثير من الجمادات أكرم ,ابر من هذه النظرة الشيئية اليهودية الينا فقد ارتقى فينا الاحساس بقيم الجمال والخير والحق عن طريق الدين أو الفن أو العبادة أو العشرة أو الحاجة أو غيرها من طرق الحياة التي يهدينا الله خلالها اليه، فصرنا أحياناً ننظر إلى كثير من الجمادات حولنا كأنها بعض حياتنا ونعرف لها من الحرمة والكرامة ما نعرف للأحياء من الحيوانات بل الناس، بل الأصدقاء والأقرباء، وإن لم نكن مؤمنين بالحلول ولا بوحدة الوجود، وأياً كان الدافع بنا إلى هذه النظرة الناسوتية أي تزويد غيرنا بصفات انسانية ـ وهي عميقة القرار في أغوار طبائعنا موصولة الجذور بجذور الحياة فينا ـ فهي ليست كما ينظر اليهود الينا نظرة شيئية مقدرة بالمنافع المادية الغليظة القريبة وحدها لصاحبها وحده دون سائر المنافع والمتع الانسانية الرفيعة من وجدانية وعقلية وذوقية وأخلاقية تعود على صاحبها أو غيره من البشر وعامة الاحياء الشارعة.
واذا وصفت هذه النظرة أو هذه الفلسفة اليهودية بأنها "شيئية" فهو غاية وسع اللغة وغاية علمي بها مع ما في هذا الوصف من قصور، ولكن بيان هذا المصطلح هو الذي يجعله وافياً كما يفي كل مصطلح بدلالته، ولا فإن نظرة اليهود الينا أحط من نظرتنا الانسانية إلى الأشياء الجامدة حولنا كم وضحنا من قبل، ونحن لا ننظر إليها كأنها أعداؤنا، وكان من واجبنا إذن أن ندمرها ونرى أن افسادها قربة إلى الله، كما ينظر اليهود الينا بعيون البغضاء، ويرون فيما أمرهم به ربهم "يهوه" أن يسلطوا علينا عوامل الفساد والابادة ابتغاء مرضاته وطمعاً في مثوبته وتوقياً لغضبه إذا قصروا في تدميرنا، فإن لم يفعلوا ذلك فهم الآثمون المستحقون عنده وعندهم لأبشع صنوف النقمة والنكال.
ولا يكن ذلك فأي مسوغ وجداني أو عقلي أو ذوقي أو أخلاقي، بل أي مسوغ اقتصادي نفعي غليظ بمعزل عن هذه البغضاء الجنونية، ولو في أعرق الشرائع الهمجية، يسوغ لغير مجنون أن يبدأ ضعيفاً أو قوياً من الأفراد أو الفرق بالبغضاء ثم الغيلة، حتى إذا فتح بلداً لم يكتف بالتسليط عليه بل قتل محاربيها ولو كانوا مدافعين لا مهاجمين، ثم استأصل كل نسائها واطفالها وشيوخها ثم جميع غنمها وحميرها وسائر حيوانها، فإذا بلغوا بها غاية التفظيع والنكال أحرقوا مبانيها فتصير أنقاضاً ويباباً
هكذا تقول التعاليم اليهودية كما تذكر توراتهم التي ينسبون إلى موسى كتابتها وحياً من ربهم "يهوه" اله الجنود، وكما توضح سائر كتبهم المقدسة، وهم لا يدينون الا بهذه التعاليم، ولا ينفذون غيرها في معاملة سائر الأمم، وبوحي من هذه التعاليم رسخت في نفوسهم بغضاء الأمم، ونزع عنها ما اشتهروا به من الشغب والشكاسة والمكر السيء في معاملة غيرهم وفي معاملة بعضهم بعضاً، فكان تاريخهم سلسلة من المؤامرات والفتن والحروب الدموية فيما بين بعضهم وبعض وفيما بينهم وبين سائر الأمم، وكانت حروبهم ولا سيما الخارجية وحروب استئصال، كما فعلوا مع سائر القبائل التي التحموا بها في فلسطين حين دخلوها قديماً، وكما فعلوا بكثير من القرى والمدن حين اقتحموا فلسطين منذ سنين، ثم اجلوا عن قسمها الذي قامت فيه دويلتهم إسرائيل سكانه الأصلاء من العرب، عجزوا عن استئصالهم من جانب، وزعزعة للدول العربية باجلائهم إليها من جانب آخر.
وهذه التعاليم التي تسوغ كل هذه الفظائع قديماً وحديثاً، بل تباركها وتفاخر بها جهاراً لا يمكن ان تصدر عن نظرة أخلاقية Moral، أو نظرة لا أخلاقية Amoral أي بمعزل عن الأخلاق، فتوصف بأنها شيئية فحسب كنظرنا إلى الجمادات، ولكنها تصدر عن نظرة غير اخلاقية lmmoral، أي نظرة ضد الأخلاق، فهي نظرة شر من النظرة الشيئية أو هي شيئية هدامة، وهذا هو وصفها الذي ينبغي لها، ونحن حين نكتفي بأن نسميها "شيئية" من جانب التيسير أو التخفيف في التعبير، فنحن نقصد بها ما فيها من معنى الهدم، ولهذا نقاومها كما ينبغي أن نقاوم المبادئ الهدامة التي يسلطها دعاة الفساد من اعداء الانسانية على المجتمعات البشرية افراداً وطوائف. ليرجعوا بها القهقري إلى ما قبل عصور الوحشية، ويمنحونها خلائق شراً من الوحوش الآبدة الضارية في الأدب والكرامة.
وهذه هو تقديري للخطر الاحمق، ليس غرضي منه اهدار آدميتهم ،ولا تحدي ظلمهم باضطهادهم افراداً وفرقاً، بل الفطنة الى ما يبيتون للعالم من وسائل التدمير، ومقاومة ظلمهم حيث نجم في ابانة حتى لا يغلظ سلطانهم فيتمكنوا من نشر الفساد بين العباد، وإن كنت اراهم واهمين غاية الوهم في حلمهم بالتسلط على العالم مهما يبلغوا من الحول والحيلة.
وهذا هو موقفي الصريح من الخطر اليهودي، ولم اقصد فيما اكتب محذراً منه ان اغري دولة أو شعباً باضطهادهم كما وهم محرر يهودي في صحيفة Actualitee التي كانت تظهر في مصر منذ سنوات. حين كتبت منبهاً إلى هذا الخطر فزعم أني أغري باضطهادهم هنا أو هناك، وأدعى ـ كما قال ـ انني اتمحل لهم الذنوب كما يتمحلها للكلب اصحابه، حين يريدون اغراقه على ما ورد في أحد الامثال التي يحسن حفظها ولا يحسن موردها الصحفي الأريب.
وموقفي كما يراه المنصف انبل مما وهم الصحفي اليهودي من جانب وأعمق من جانب آخر، هو انبل لأني اعترف بالآدمية لكل يهودي وأن كنت أعتقد أنه وفق عقيدته يهدر آدميتنا، كما أني اعترف له بكل حرمات الآدميين وحقوقهم، وان كان هو لا يرقب فينا حرمة ولا يصون لنا حرية، ولست احاسبهم على ما اشربت قلوبهم من بغضائنا واحتقارنا إذ لا يحاسب الإنسان على نياته الا الله، وان كنت احذر بمليء فمي النيات الشريرة التي يجارون بها بطراً وفخاراً، وغاية وسعي بعد ذلك أن اسلم بالواجب الذي لا مفر منه ولا حسباهم على اعمالهم بالعدل دون ان نخشى لومة لائم، لأنهم ليسوا فوق المسؤولية ولا دونها، ومن موجبات الدقة في حسابهم ما يجاهرون به من اغراضهم الشريرة لا فساد الامم وان فاتهم سلطانها.
وموقفي اعمق من جانب آخر، فأنا اضع نصب عيني هذه النيات التي تؤحي بها إليهم تعاليمهم الهمجية، وهي ظاهرة في كل ما لهم من مساع واعمال، فأنا لا احذر خطرهم لأنهم حاربوا قومي أو يحاربوهم فحسب. ولا لأنهم اقتطعوا إسرائيل من فلسطين فصاروا العدو القريب الدار أو القائم في صميم بلادنا فحسب، وان كان كل اولئك من دواعي الالتفات إلى هذا الخطر، بل أنا احذر خطرهم على الانسانية ايضاً، ولو جلوا عن بلادنا إلى أي بقعة في العالم، لأنهم حيث كانوا أعداء الانسانية الذين يتربصون بها الدوائر، ولم تعد اقطار الأرض اليهم دوائر مقفلة: كل دائرة قائمة بنفسها معزولة عن ابعدها، بل هي دوائر متداخلة كل منها واغلة في سائر الدوائر، بل انها ـ مع توادها بل تعاديها، وبرضاها وعلى الكره منها ـ كأنها الجسد الحي إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر اعضائه بالسهر والحمى كما تدل على ذلك أوضح الدلالة واغناها احداث السنوات الأخيرة.
فحيثما قام لليهود سلطان وهم على هذه البغضاء للأمم فهم خطر على كل من فيها مهما يبعد عنهم موطنهم أو تنقطع بهم صلته في ظاهر الأمر.
ولهذا تبقى مسؤوليات المفكرين والساسة المسؤولين عن الأمم قائمة امام هذا الخطر بعد أن يفرغ الجند من حسابهم معه بالنصر أو المتاركة أو المهادنة أو الصلح ولا ينبغي لصاحب قلم ان يغمده ويغفو عنه ولو ألقى الجندي سلاحه ونام ملء جفنيه "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، واخراج اهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا".
وهذا صوت الحياة، فإن لم يكن منهم قتال وقتل تكن فتنة شر واكبر من القتل.
واذا اغمد السيف حين لا قتال فلا يغمد القلم ما قامت الفتنة، وهي قائمة على الدوام.
ولا مفر من قتال كل معتد أثيم حيث ارتفعت يده بالسيف ولسنا نرى "الكف" فنقول لليهود امثالهم ما قال أحد ابني آدم لأخيه فيما روى القرآن الكريم "لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين" فنحن نخشى الله كهذه الخشية، ولكنا من أجل هذه الخشية نفسها نلقي سيف الباغي بسيف مثله كرامة للحق الذي امرنا الله بحفظه وفداء في سبيله.
وليس باعثاً على جهاد الخطر اليهودي ونحوه حيث جاهر بالقتال أو الفتنة هو الشعور الديني أو القومي فحسب، بل هو الشعور بالمسؤولية الاخلاقية الانسانية، وليس سندنا هنا هو مجرد الاخلاق الاجتماعية التي نستمدها من المجتمع في بقعة في زمن محدود، بل شعورنا بالمجتمع الاوسع الي يشمل الانسانية في جميع الإعصار والأمصار، ثم ينداح هذا الشعور حتى يلتقي بجذور الوجود متضامنا مع كل ذي عقل وإرادة أو كل ذي مسؤولية فيه بقدرة من القوة والأمانة.
فهو شعور لا تنحصر تبعته أمام فرد ولا طائفة ولا امة ولا مجموع الأمم على اختلاف الأزمنة والأمكنة، بل يتناول الكون كله جملة بسماواته واراضيه، وما وراء ذلك من قوى مدبرة له ومدبرة معه ومدبرة به. ومن معان هي ألطف من أن يحيط بها الا الله، واظهر من أن لا يتأثر بها حي ولا جماد وان جهلها غاية الجهل. واذا كان المرجع القريب لهذا الشعور هو المجتمع الذي يحيط بنا في اصغر صورة ثم اكبرها فمرجعه البعيد هو الضمير الذي امتلأ بتاضنه مع الكون كله في كماله ونقصه وقوته وضعفه. وبهذا القسطاس الاخلاقي الكوني أدين نفسي وأدين غيري في الوجود، وازن كل ما فيه من أعمال وقيم ومذاهب، ومن كان يحس بتضامنه هكذا مع الكون كله لم يحس بالوحشة ولو تخلى عنه كل البشر، ولا وحشة مع انس الضمير بهذا التضامن الابدي.
وعقيدتنا التي هي عزاؤنا وقوتنا في هذه الملحمة بيننا وبين الصهيونية ومثلها ان حربها فريضة انسانية وليست فريضة قومية فحسب، وفي كل فريضة انسانية إنما نعمل على قدر ما توجب علينا قوتنا وامانتنا، لا لأن أحداً يطلبها منا، فنرضيه أو يرضينا إذا أديناها، ويؤاخذنا إذا قصرنا فيها، فإن هذا الشعور مرجعه الضمير، صوت الله في نفوسنا، والروح القدس الذي لا سلطان لاحد عليه، وهذا الشعور نوع من الحب الذي يغتبط بما يعطي لا بما يأخذ، وهذا ضرب من الفضيلة في أعلى طبقاتها لا يبلغها الا المقربون وكل ميسر لما خلق له، وليس للانسان الا ما سعى، وكل امرء بما كسب رهين.