التحريف في العهد القديم
تحدث القرآن الكريم عن تحريف التوراة في آيات كريمة منها قول الله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون » (آل عمران: 71)، ويقول: « من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه» (النساء: 46)، « وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون » (البقرة: 75).
وعن تحريفهم بالنقص يقول: « قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً » (الأنعام:91)، « إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» (البقرة: 174)، ويقول: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب » (المائدة: 15).
وعن تحريفهم بالزيادة والكذب على الله يقول: « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» (البقرة: 79) وقال: « وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» (آل عمران: 78).
فالتحريف إذاً يكون بالنقص والزيادة، وكل ذلك وقع في التوراة كما سنرى.
وقبل أن نلج لعرض بعض صور التحريف يستوقفنا سؤال يطرحه النصارى دائماً : هل من الممكن أن يحرِّف أحد كلام الله؟ وكيف أذن الله بهذا التحريف؟
ونقول: الكتاب المقدس يتحدث عن إمكانية تحريفه، ويذكر لنا -كما سيمر معنا شهادة الأنبياء على تحريفه -، فلو كان الكتاب غير ممكن التحريف لما كان أي معنى أو فائدة لآخر فقرة وردت فيه "لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب، إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة " (الرؤيا 22/18-19)، فهذه الفقرة تحذر من تحريف الكتاب، وتتوعد فاعله، فدل ذلك على أنه ممكن الحدوث.
ويتنبأ النبي عاموس بفقد كلمة الرب، فيقول: "هوذا أيام تأتي، يقول السيد الرب: أرسل جوعاً في الأرض، لا جوعاً للخبز، ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمات الرب، فيجولون من بحر إلى بحر، ومن الشمال إلى المشرق، يتطوّحون ليطلبوا كلمة الرب، فلا يجدونها " (عاموس 8/11- 12)، فالنص - كما ترى - نبوءة عن فقد الكتاب، وذاك وعيد لمن يحرف الكتاب بزيادة أسفار الأبوكريفا السبعة في الكتاب أو حذفها وإسقاطها منه، أو غير ذلك من صور التحريف.
وأما قول قائلهم: كيف يسمح الله بحدوث ذلك؟ فإن القائل نسي سنة الله في الكافرين والمارقين، وقد أذن لهم - وفق مشيئته وقدره - بسبّه والكفر به وعصيان أوامره، ومثله تحريف كتابه الذي أمر بني إسرائيل بحفظه، فأضاعوه وحرفوه، كما صنعوا بكل شرائعه، وكما ولغوا في دماء أنبيائه وفق قدر الله ومشيئته.
تحريف النقص
ومن صور التحريف بالنقص تلك الإحالات الإنجيلية إلى التوراة والتي لا نجدها في الأسفار الموجودة بين أيدينا، ومن ذلك ما جاء في متى " ثم أتى وسكن في بلد تسمى ناصرة، ليكمل قول الأنبياء : أنه سيدعى ناصرياً " ( متى 2/23 ).
ولا يوجد ذلك في شيء من التوراة. قال ممفرد الكاثوليكي في كتابه " سؤالات السؤال " : "الكتب التي كان فيها هذا انمحت، لأن كتب الأنبياء الموجودة الآن لا يوجد في واحد منها أن عيسى يدعى ناصرياً ".([1])
ومن صور النقص ما شهد المسيح بضياعه حين قال: "أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء" (متى 12/5)، ولا يوجد مثله في كلام التوراة، فدل ذلك على ضياعه وفقده.
ونحوه في قوله: "من آمن بي - كما قال الكتاب - تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يوحنا 7/37)، وهذه الإحالة مفقودة من الكتاب.
ومما نفقده في سفر المراثي أخبار رثاء الملك يوشيا، فقد ذكر كاتب سفر الأيام الثاني أنه موجود فيه فقال: "ورثى إرميا يوشيا، وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة على إسرائيل، وها هي مكتوبة في المراثي" (الأيام (2) 35/25).
وهذا الموضوع لم يتطرق إليه سفر المراثي أبداً بشهادة الآباء اليسوعيين الذين كتبوا في حاشيته: "سفر المراثي المنسوب إلى هذا النبي (إرميا) لا يحتوي على شيء يتعلق على وجه خاص بهذا الملك، إن هذا النص الذي يستند محرر الأخبار إليه مفقود".([2])
ومن صور النقص ما جاء في سفر التثنية "فإن كان المذنب مستوجب الضرب يطرحه القاضي ويجلدونه أمامه، على قدر ذنبه، بالعدد أربعين يجلده، لا يزد لئلا إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة يحتقر أخوك في عينيك، (بياض)، لا تَكُمَّ الثور في دراسه([3])، (ثم ينتقل النص إلى موضوع آخر) إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم...." (التثنية 25/2-5)، فثمة نقص واضح في المعنى استعاض ناسخو الكتاب عنه بترك بياض، للدلالة على وجود سقط في النص، ولا علاقة بين مثل كم الثور وما قبله من حديث عن العدل في عقوبة المذنب.
ومن السقط أيضاً خاتمة الإصحاح الثاني من سفر الخروج، الذي ينتهي بصورة فجائية، عند قوله: "ونظر الله بني إسرائيل، وعلِم اللهُ" (الخروج 2/ 25)، وقد أشار محققو نسخة الرهبانية اليسوعية إلى أن الإصحاح مبتور.
ومن النقص ما تضع بعض التراجم والنسخ نجوماً بدلاً منه، منها النسخة العربية لدار الكتاب المقدس التي اعتمدناها في هذه السلسلة.
ففي سفر صموئيل نقص بيان جزاء بني إسرائيل إن استقاموا على عبادة الله، ففيه أن صموئيل قال: "إن اتقيتم الرب وعبدتموه وسمعتم صوته، ولم تعصوا قول الرب، وكنتم أنتم والملك أيضاً الذي يملك عليكم وراء الرب إلهكم ***** [هكذا في المطبوع]، وإن لم تسمعوا صوت الرب بل عصيتم قول الرب تكن يد الرب عليكم" (صموئيل (1) 12/14-15).
وتتكرر النجوم مرة أخرى في سفر صموئيل الثاني مشيرة إلى وجود سقط في تمام حديث داود عن العرج والعمي، فيقول السفر: "قال داود في ذلك اليوم: إن الذي يضرب اليبوسيين ويبلغ إلى القناة والعرج والعمي المبغضين من نفس داود ***** [هكذا في المطبوع] لذلك يقولون: لا يدخل البيت أعمى أو أعرج" (صموئيل (2) 5/Cool.
ونحوه سقط بعض النص في سفر حزقيال في وصف الزانية وبيان حالها، واستعيض عنه بالنجوم "فقلت عن البالية في الزنا: الآن يزنون زنى معها، وهي*** [هكذا في المطبوع]، فدخلوا عليها كما يُدخَل على امرأة زانية" (حزقيال 23/43).
ومثله وقع النقص في رسالة ملك أرام إلى ملك إسرائيل "فأتى بالكتاب إلى ملك إسرائيل يقول فيه ****** ، فالآن عند وصول هذا الكتاب إليك، هوذا قد أرسلت إليك نعمان عبدي، فاشفه من برصه" (الملوك (2) 5/6).
كما وقع النص في رسالة أخرى، وهي رسالة ياهو، حيث جاء في سفر الملوك "فكتب ياهو رسائل وأرسلها إلى السامرة، إلى رؤساء يزرعيل الشيوخ وإلى مربّي آخآب قائلاً: ******، فالآن عند وصول هذه الرسالة إليكم " (الملوك (2) 10/1-2).
وفي سفر الأيام الأول يفجؤنا نقص آخر عوضه كتبة الكتاب المقدس بنجوم أثبتوا من خلالها ضياع بعض كلمات الناموس، إذ يقول: "وبنو عزرة يثر ومرد وعافر ويالون ******، وحبلت بمريم وشماي ويشبح أبي اشتموع" (الأيام (1) 4/17)، فيا ترى كم سقط من أبناء عزرة، ومن هم الذين تحدث عنهم النص قبل أن يعود لتلك التي سقط اسمها، والتي حبلت بمريم؟
وقد تنبه الآباء اليسوعيون ومحررو الترجمة العربية المشتركة للنقص، فأكملوه من عندياتهم، وأراحوا القراء من عناء الإجابة عن سؤالنا، فالنص عندهم: " وبنو عزرة: ياتر ومارد وعافر ودالون، واتخذ مارد بتية، فحبلت بمريم وشماي ويشباح"، إنهم يكملون عن الروح القدس والأنبياء ما فاتهم أن يسجلوه، أو بالأحرى يستكملون ما ضاع من أسفارهم!!
كما وقع النقص في خاتمة الإصحاح السادس من سفر زكريا، ولم يجد طابعو الكتاب المقدس ما يكملون به الجملة إلا أربعة من النجوم ختموا بها هذا الإصحاح "والبعيدون يأتون ويبنون في هيكل الرب، فتعلمون أن رب الجنود أرسلني إليكم، ويكون إذا سمعتم سمعاً صوت الرب إلهكم ****" (زكريا 6/15).
وفي أحيان أخرى وضع طابعو الكتاب المقدس (--) للدلالة على وجود سقط في النص، ومن صوره "هذه أيضاً للحكماء--- محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة" (الأمثال 24/23)، ونحوه في سفر إرمياء "في الأنبياء-- انسحق قلبي في وسطي، ارتخت كل عظامي" (إرمياء 23/9)، ومثله في نشيد الإنشاد "وحنكك كأجود الخمر-- لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين" (نشيد 7/9).
ومن النقص في الأسفار ضياع اسم الكاهن الذي كان لعشيرة منيامين، فقد سها عنه كاتب سفر نحميا حين قال: "ولأبيا زكري، ولمنيامين، لموعديا فلطاي" (نحميا 12/17)، وعلقت الترجمة العربية المشتركة بقولها: "لا يورد النص العبري اسم الكاهن في عشيرة منيامين"، وأما الآباء اليسوعيون، فوضعوا نقطاً بدلاً عن الاسم المفقود.
وينسب سفر طوبيا (من أسفار الأبوكريفا) إلى توراة موسى ما ليس فيها، فقد أمر ملاك الرب طوبيا بخطبة سارة بنت رعوئيل، وقال له مطمئناً: "فأنا أعلم أن رعوئيل لا يقدر أن يزوجها لأحد سواك حسب شريعة موسى، لأنه يعاقب بالموت، لأنك أحق الناس بها" (طوبيا 6/13)، وهذا الحكم غير موجود في شريعة موسى، لذا علق محققو الترجمة العربية المشتركة على هذا النص بقولهم: "لا نجد في شريعة موسى عقاب الموت في هذه الحالة".
إن هذه المواضع الضائعة من أسفار العهد القديم لم تنجح في استدراكها آلاف المخطوطات التي يتباهى بكثرتها النصارى، فهي على كثرتها لم تكن كافية في إبلاغنا النصوص التوراتية بتمامها، ولرؤية المزيد مما استعاض عنه طابعو الكتاب المقدس بالنجوم تارة وبترك بياض تارة أخرى ندعو للتأمل في (الأيام (2) 36/23)، و(عزرا 1/3)، و(عزرا 6/5-6)، (المزمور 137/5) وغيرها من المواطن.
ومن صور التحريف بالنقص تلك الأسفار الضائعة
ويمتد السقط والضياع في الأسفار التوراتية ليشمل أسفاراً توراتية ضاعت واندرس خبرها ، وشهد لضياعها أسفار العهد القديم الموجودة في الكتاب المقدس.
منها : سفر حروب الرب المذكور في سفر العدد ، حيث يقول: "لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفة وأودية أرنون" ( العدد 21/14 ).
وكذا فُقِد سفر ياشر، فقد قال يشوع النبي: " أليس هذا مكتوباً في سفر ياشر: فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" ( يشوع 10/13 )، وفي موضع آخر: "أن يتعلم بنو يهوذا نشيد القوس، هوذا ذلك مكتوب في سفر ياشر" (صموئيل (2) 1/18).
وكذا يَرثي المحققون ويألمون لضياع سفر أخبار صموئيل الرائي، وسفر أخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي الذين ذكروا في سفر الأيام، حيث يقول: "وأمور داود الملك الأولى والأخيرة هي مكتوبة في أخبار صموئيل الرائي وأخبار ناثان النبي وأخبار جاد الرائي" ( الأيام (1) 29/29).
ومن الأسفار الضائعة سفر أخبار شمعيا النبي، وسفر عدوَ الرائي المذكوران في سفر الأيام "أمور رحبعام الأولى والأخيرة، أما هي مكتوبة في أخبار شمعيا النبي وعِدّو الرائي " ( الأيام (2) 12/15).
ومن الضائع أيضاً سفر أخبار النبي أخيا الشيلوني " هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي وفي نبوّة أخيا الشيلوني وفي رؤى يعْدو الرائي " ( الأيام (2) 9/29 ).
ومنها أيضاً سفر ينسب للنبي إشعيا ذكره كاتب سفر الأيام حين قال: "وبقية أمور عزيا الأولى والأخيرة كتبها إشعيا بن آموص النبي" (الأيام (2) 26/22)، ومن المعلوم أن سفر إشعيا الحالي لم يتحدث مطلقاً عن الملك عزيا، فإما أنه سقط منه ، أو أن الإحالة إلى سفر آخر كتبه النبي إشعيا، وضاع فيما ضاع من أسفار التوراة.
يقول آدم كلارك: " حصل لقلوب العلماء قلق عظيم لأجل فقدان تاريخ المخلوقات فقداناً أبدياً".
ومقصوده ما جاء في سفر الملوك عن سليمان: " وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك" (الملوك (1) 4/32 - 33)، فأين هذا السفر؟
يقول طامس أنكلس الكاثوليكي: " اتفاق العالم على أن الكتب المفقودة من الكتب المقدسة ليست بأقل من عشرين ". ([4])
ومن الأسفار التي نفتقدها في العهد القديم سفر أخنوخ الذي استشهد به يهوذا في رسالته، وكان سبباً في تأخر الاعتراف برسالته ([5]) ، قال: "وتنبأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار" (يهوذا 1/14).
وهذا السفر موجود بالفعل، واقتباس يهوذا منه موجود في (أخنوخ 1/9) كما نقل محررو قاموس الكتاب المقدس، لكن آباء الكنائس النصرانية اعتبروه سفراً مزيفاً غير قانوني، ولم يشفع له استشهاد يهوذا والآباء الأوائل للكنيسة به، يقول محررو قاموس الكتاب المقدس عن هذا السفر: "سفر من الأسفار غير القانونية .. والكتاب مليء بأخبار الرؤى عن المسيّا المنتظر والدينونة الأخيرة وملكوت المجد .. وقد اقتبس بعض الآباء الأوائل في العصور المسيحية الأولى بعض أقوال هذا السفر .. ولكن قادة المسيحيين فيما بعد أنكروا هذا الكتاب ورفضوه.." ([6])
التحريف بالزيادة
ومن التحريف الذي تعرضت له الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى تحريف الزيادة، وهو باب كبير يشمل تلك المواضع المشينة التي أضيفت في الأسفار، ونسبت إلى الأنبياء، وكما يشمل ما تضمنته الأسفار من معلومات تاريخية ومسميات ظهرت بعدهم، كما سبق بيانه، ومنه تلك الأخبار الملفقة والمكذوبة عن الله ورسله مما ذكرناه قبلُ.
ومن صور تحريف الزيادة ذكر كاتب سفر التكوين اسم إسحاق في سياق قصة الذبيح، بدلاً من إسماعيل، فقد أمر الله إبراهيم بذبح ابنه الوحيد " خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق " (التكوين 22/2).
وكانت التوراة قد صرحت بأن إسماعيل أكبر أبناء إبراهيم، وأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة "كان أبرام ابن ستٍّ وثمانين سنةً لمّا ولدت هاجر إسماعيل لأبرام" (التكوين 16/16)، فيما ولد إسحاق بعده بأربعة عشر عاماً "وكان إبراهيم ابن مائة سنةٍ حين ولد له إسحاق ابنه" (التكوين 21/5).
لكن النصارى يزعمون أن إسماعيل لا يصلح أن يحسب ابناً لإبراهيم، لأنه ابن جارية، ويتناسون أنه ابن شرعي حقيقي، كما في التوراة نفسها "فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها لأبرام رجلها زوجةً له. فدخل على هاجر فحبلت.." (التكوين 16/31-4).
وفي موضع آخر من السفر يقول: " ولدت هاجر لأبرام ابناً. ودعا أبرام اسم ابنه الّذي ولدته هاجر: إسماعيل" (التكوين 16/15-16).
وعندما غارت سارة من هاجر "قالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها، لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جدّاً في عيني إبراهيم لسبب ابنه (أي إسماعيل). فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك" (التكوين 21/10-12).
ويثبت له الكتاب البنوة مرة أخرى، فيقول: "ودفنه إسحق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة" (التكوين 25/7).
والعجيب أن التوراة لم تقل أبداً أن إسماعيل ابن غير شرعي لإبراهيم، فهذه سارة امرأة إبراهيم أيقنت أنها لن تنجب لإبراهيم نسلاً، فآثرت أن تزوجه بهاجر: "ادخل على جاريتي لعلّي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراي" (التكوين 16/1-4)، "فولدت هاجر لأبرام ابناً. ودعا أبرام اسم ابنه الّذي ولدته هاجر إسماعيل" (التكوين 16/15-16).
ثم كيف يدعي المؤمنون بالكتاب المقدس أن الله أمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد وعده الله أن يريه ذرية ونسلاً من إسحاق ، وهو لم يولد بعد، فإبراهيم يعلم أن ابنه إسحاق لن يموت ولن يذبح، لأنه سيكبر، وستكون له ذرية كما وعده الله "في كلّ ما تقول لك سارة اسمع لقولها، لأنّه بإسحاق يدعى لك نسلٌ" (التكوين 21/12-13).
فقوله: " خذ ابنك وحيدك " حق، وكلمة " إسحاق " زيادة ولبسٌ للحق بالباطل.
ويشهد للتبديل قوله: " لم تمسك ابنك وحيدك عني " ( التكوين 22/12، 16 )، ولم يذكر فيه اسم إسحاق.
ومن التحريف أيضاً استبدال المترجمين كلمة الوحيد بالمفضل في بعض التراجم، وهو تحريف ولا ريب لأن النص العبراي استخدم كلمة (يخيداخا) ومعناها: الوحيد، وليس المفضل.
تحريف المترجمين
ولمترجمي الكتاب المقدس نصيبهم من التحريف الذي أضحى سمة لكل أولئك المؤتمنين على الكتاب المقدس، حيث يتلاعب هؤلاء بالنصوص، وهم يقومون بترجمتها، من صور هذا النوع من التحريف الصور التي نعرضها والتي توضح مقدار الحرية التي تعامل بها المترجمون مع النصوص التوراتية، إذ النص العربي يذكر اشتقاقات عربية لا يصح أن تكون في كتاب أصل لغته العبرية. ومن ذلك:
يقول سفر التكوين: " وولدت له قايين، وقالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب " ( التكوين 4/1)، فكلمة " قايين" كما في قاموس الكتاب المقدس معناها: " حداد "([7]) ، فالمناسبة معدومة بين الاقتناء أو الشراء، واسم قايين الذي يعني: حداد.
ومثله قوله: " دعي اسمها بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض " ( التكوين 11/9 ). وكلمة بابل في اللغة الآكادية " باب ايلو " بمعنى : " باب الرب " كما في قاموس الكتاب المقدس([8]) ، وعليه فليس من مناسبة بين اسم بابل والبلبلة التي تذكرها التوراة، فالمناسبة التي يزعمها الكاتب غير متحققة.
ومثله حاول كاتب سفر الخروج إيجاد علاقة بين اسم موسى وانتشال ابنة فرعون له من الماء، فقال: " ولما كبر الولد جاءت به [أخته] إلى ابنة فرعون فصار لها ابناً، ودعت اسمه: موسى. وقالت: "إني انتشلته من الماء" (الخروج 2/10)، فزعم أن المرأة المصرية - التي لا تعرف العبرانية - سمته بموسى؛ لأنها انتشلته من الماء، وأنها اشتقت اسمه من الكلمة العبرانية (مشا) أي (انتشل).
وهذا الزعم بعبرانية اسم موسى يتشكك به الآباء اليسوعيون في تعليقهم على النص، إذ يقولون: "إن ابنة فرعون لا تتكلم العبرية، في الواقع هذا اسم مصري يعرف بصيغته المختصرة موزس"، ومعناه: ولد أو ابن.
وأما محققو الترجمة العربية المشتركة فيعلقون: "موسى: اسم من أصل مصري، ولكن الكاتب وجد له اشتقاقاً خاصاً به".
ومن صور التحريف الهامة ما صنعه المترجمون المسيحيون للمزمور الثاني والعشرين ليكون نبوءة مزعومة عن المسيح الذي مات على الصليب وقد ثقبت يداه ورجلاه، يقول المزمور: "لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديّ ورجليّ" (المزمور 22/16)، وليس في النص العبراني كلمة: (כָּאֲרִוּ) ثقبوا، التي تنطق (كأرو)، بل يستخدم كلمة (כָּאֲרִי) (كأري) التي تعني كأسد، والنص بتمامه : " כִּי סְבָבוּנִי, כְּלָבִים: עֲדַת מְרֵעִים, הִקִּיפוּנִי; כָּאֲרִי, יָדַי וְרַגְלָי".
وقد اعترفت نسخة الرهبانية اليسوعية بالتحريف، وذكرت أن النص المحرف "بحسب الترجمة اللاتينية الشائعة، والكلمة العبرية تعني: (كالأسد)، وهي غامضة"، وهكذا فلغموض كلمة الأسد تلاعبوا بالنص وحوروه إلى "ثقبوا يديّ ورجليّ".
ومن الصور التي أبقاها المترجمون على حالها، فكان فعلهم صحيحاً خالياً من التحريف، قوله: "وقال لابان : هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم، لذلك دعي اسمها جلعيد " ( التكوين 31/48).
وكلمة جلعيد كما يفيد قاموس الكتاب المقدس كلمة عبرانية معناها: " رجمة الشهادة ".
الكتب تتهم بني إسرائيل بالتحريف
ثم ها هي أسفار العهد القديم تتهم القوم بتحريف التوراة، فحين كان بنو إسرائيل في بابل بدأ عزرا الكاتب في كتابة الأسفار الضائعة، والتي غابت عن بني إسرائيل طويلاً ، لكن النبي إرميا ، - وهو أحد أعظم أنبياء ما قبل السبي - نعى كثيراً على أولئك الأنبياء الكذبة الذين سُبوا إلى بابل ، وأخبر بانحرافهم وكذبهم على الله فيما ينسبونه إلى وحي الله، وقد وقع ذلك منه في نصوص عديدة، منها قوله: " قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبؤوا باسمي بالكذب قائلين : حلُمتُ، حلُمتُ " (إرميا 23/25 ).
ويقول: " كيف تقولون : نحن حكماء، شريعة الرب معنا حقاً، إنه إلى الكذب، حوَّلها قلم الكتبة الكاذب " ( إرميا 8/8 )، فقد حرفت كلمة الله بيد الكتبة الكذبة.
ويؤكد وقوع التحريف، ويتهدد بالعقوبة أولئك الذين مازالوا يتحدثون عن كلام الرب الذي حرفوه، فيقول: " وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟ فقل لهم: أي وحي؟ إني أرفضكم هو قول الرب، فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول: وحي الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته. هكذا تقولون، الرجل لصاحبه، والرجل لأخيه، بماذا أجاب الرب وماذا تكلم به الرب: أما وحي الرب فلا تذكروه بعد، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا" (إرمياء 23/33-36).
ومثله وقع التحريف في سفره " فأخذ إرمياء درجاً آخر، ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار، وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله " ( إرميا 36/32)، ولم يذكر السفر من الذي زاد على قول إرمياء النبي.
كما تحدث إرميا عن أولئك الذين يدعون النبوة، والرب لم يرسلهم: "قال رب الجنود إله إسرائيل : لا تغشكم أنبياؤكم الذين في وسطكم وعرافوكم، ولا تسمعوا لأحلامهم التي يتحلمونها، لأنهم يتنبؤون لكم باسمي الكذب، أنا لم أرسلهم يقول الرب " (إرميا 29/8 - 9).
ويواصل إرميا الحديث عن أولئك الذين رآهم يكتبون الكتب وينسبونها إلى الله، فيقول: "وصار في الأرض دَهَش وقشعريرة، الأنبياء يتنبؤون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب " ( إرميا 5/30 - 31 ). لقد تمالأ الجميع على هذا التحريف، الأنبياء الكذبة والكهنة والشعب اليهودي.
ويقول النبي إشعيا: " ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم في الظلمة، ويقولون : من يبصرنا، ومن يعرفنا ؟ يالتحريفكم " ( إشعيا 29/15 – 16 ).
وفي حزقيال " القائلون : وحي الرب. والرب لم يرسلهم .. وتكلمتم بعرافة كاذبة قائلين: وحي الرب، وأنا لم أتكلم " ( حزقيال 13/6 - 7 ).
وهكذا تعرض التوراة نوعين من التحريف : تحريف الكتبة الذين يدعون الوحي، وتحريف بني إسرائيل وهم يحرفون كلام الله الذي جاء على لسان أنبيائه.
لقد حصل ما توقعه موسى عليه السلام حين قال : " خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم .. لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق " ( التثنية 31/24 - 29 ).
اعترافات بوقوع التحريف
ويعترف كبار المراجع النصرانية بوقوع التحريف والزيادة المستمرة حيث تقول لجنة الكتاب المقدس البابوية في مدخلها سنة 1948م: " يوجد ازدياد تدريجي في الشرائع الموسوية سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية ".
ويقول كيرت: " الكتاب المقدس المتداول حالياً لا يحتوي على التوراة والإنجيل المنـزلين من الله، ولقد اعترف علماء باحثون باللمسات البشرية في إعداد هذا الكتاب المقدس ".
ويقول جيمس جيستنج: " ومع هذا فإننا نتوقع أن نجد خلال صفحات الكتاب المقدس بعض الأجزاء من التوراة والإنجيل الأصليين، مما يتحتم معه دراسة جادة لكي تجعل مضمون الكتاب المقدس مفهوماً".
ونختم بنقل ما قاله الناقد اليهودي الشهير اسبينوزا عن تحريف الأسفار التوراتية، حيث يقول : "لا يسلِّم معظم المفسرين بوقوع أي تحريف في النص ، حتى في الأجزاء الأخرى، ويقررون أن الله بعناية فريدة قد حفظ التوراة كلها من أي ضياع".
ويضيف: "أما اختلاف القراءات فهو في نظرهم علامة على أسرار في غاية العمق ، ويتناقشون بشأن النجوم الثمانية والعشرين الموجودة وسط إحدى الفقرات ، بل تبدو أشكال الحروف ذاتها وكأنها تحتوي على أسرار كبيرة، ولست أدري إن كان ذلك ناجماً عن اختلال العقل، وعن نوع من تقوى العجائز المخرفين، أم أنهم قالوا ذلك بدافع الغرور والخبث، حتى نعتقد أنهم وحدهم هم الأمناء على أسرار الله، ولكني أعلم فقط أني لم أجد مطلقاً أي شيء عليه سيما السر في كتبهم، ولم أجد فيها إلا أعمالاً صبيانية ".([9])
---------------------------------------------------------
([1]) انظر : إظهار الحق ، رحمة الله الهندي (2/538 – 539).
([2]) وانظر المدخل إلى العهد القديم، د. صموئيل يوسف، ص (303).
([3]) مثل يُضرب في الدعوة إلى عدم حرمان المرء من ثمرة عمله كما يحرم الثور من الأكل بتكميم فمه حين الدراس، قال شراح التفسير التطبيقي: "إن لهذه الآية معنى أوسع، وهو ألا تكون بخيلاً مع من يعملون لأجلك". (انظر ص 400).
([4]) انظر : إظهار الحق ، رحمة الله الهندي (2/583 ، 587).
([5]) انظر : علم اللاهوت النظامي، واين جرودم (1/48).
([6]) قاموس الكتاب المقدس، ص (32).
([7]) قاموس الكتاب المقدس ، ص (710) .
([8]) قاموس الكتاب المقدس ، ص (152) .
([9]) انظر : إظهار الحق ، رحمة الله الهندي (1/38 - 39)، الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف ، يحيى ربيع ، ص (326).