معتقد المسلمين في توراة موسى عليه السلام
تبين آيات القرآن الكريم بجلاء موقف المسلمين من التوراة التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، إذ يخبرنا القرآن أنها وحي الله وكتابه وهديه الذي أنزله هدى ونوراً لبني إسرائيل « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا » (المائدة: 44)، «وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس » (آل عمران: 3-4).
ويقول تعالى مخاطباً المؤمنين، داعياً إياهم إلى الإيمان والتصديق بكل ما أنزل على الأنبياء السابقين: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون » (البقرة: 136), ويقول واصفاً المؤمنين: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله» (البقرة: 285).
وقد ذكر القرآن الكريم أن الله وكل إلى أهل الكتاب حفظ كتابهم «بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء » (المائدة: 44)، لكن هل كان بنو إسرائيل أمناء على الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم؟
القرآن يخبرنا أن اليهود قد امتدت أيديهم إلى الكتاب تتلاعب بمضامينه ومعانيه ، فذكر أنهم «يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به» (المائدة: 13).
كما أخبرنا الله تعالى أنهم كتموا بعضاً مما أنزل الله عليهم ، وأن الله بعث نبيه ومعه بيان كثير مما أخفوه ، ناهيك عما تجاوزه، فلم يظهره «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير » (المائدة: 15).
ثم كانت إحدى أكبر مساوئهم أنهم كانوا يكتبون كتباً من عندهم، ثم ينسبونها إلى الله عز وجل «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» (البقرة: 79)، وقال: « وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» (آل عمران: 78).
ووضح النبي صلی الله علیه وسلم هذا المعتقد حين قال: ((إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً، فاتبعوه، وتركوا التوراة)).([1])
واستقر هذا المعنى في نفوس الصحابة والمؤمنين بعدهم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنـزل على رسول الله صلی الله علیه وسلم أحدثُ، تقرؤونه محضاً لم يُشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً). ([2])
ولا يمنع هذا من صحة بعض مواضع في التوراة، لما فيها من آثار الأنبياء، ففي التوراة حق وباطل كما أخبر الله ورسوله. ومن النصوص التي أشارت إلى وجود شيء من الحق في كتبهم ألبسوه بالباطل والزور قوله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون » (آل عمران: 71)، وكذا قوله: «وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله» (المائدة: 43)، وذلك في مسألة رجم الزاني، وهو مذكور في سفر التثنية، حيث يقول: " إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنـزع الشر من وسطك" (التثنية 22/22-23).
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إليكم )). ([3])
وعلل سبب عدم التكذيب بوجود حق وصدق في كتبهم، حيث قال كما في رواية أبي داود : ((ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه)). ([4])
وعليه فنحن نؤمن بتوراة موسى كل الإيمان، ونؤمن بأنها حرفت ولم تحفظ، وأن القوم أخفوا شيئاً، وكتبوا أشياء، وضاع منهم الكثير، وما بين يديهم لا يخلو من بعض الحق.
وكثيراً ما نرى النصارى يستشهدون على صحة كتبهم بما جاء في القرآن من ثناء على كتاب موسى عليه السلام ، مدعين أنها توثق الأسفار التي بين يديهم، فهل أعجزتهم الحيل أم ضاقت بهم السبل ، إنهم يرومون توثيق هذه الكتب والأسفار بنصوص القرآن والسنة التي نطقت بتحريفهم.
لذا نراهم يقتطعون النصوص القرآنية اعتسافاً، فيوردون بعضها ويتغافلون عن الكثير مما لا يخدم فكرتهم، إنها طريقتهم دوماً «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض» (البقرة: 85)، وهم بذلك كما وصف الله «فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» (آل عمران: 7).
وعند جمع هذه النصوص في مكان واحد يستبين الحق ويستبصر الباحث عن الحق صراط الله المستقيم.
فمما يثبت أن هذه الأسفار ليست توراة موسى أن القرآن نسب إلى أسفار موسى الكثير من المعاني التي نفتقدها في النصوص الحالية، ومن ذلك قوله: « إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقّاً في التّوراة والإنجيل والقرآن» (التوبة: 111)، ولا وجود لهذا المعنى في العهد القديم ولا الجديد.
ومثله قوله تعالى: « بل تؤثرون الحياة الدّنيا * والآخرة خير وأبقى * إنّ هذا لفي الصّحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى » (الأعلى: 16-19)، فهذا المعنى لا وجود له في صحف الأسفار المنسوبة لموسى والتي تخلو من الحديث عن الآخرة والقيامة، فضلاً عن المقارنة بينها وبين الدنيا.
ومثله نفتقد في الأسفار الحالية ما نسبه الله إلى توراته وإنجيله في سورة الأعراف من حديث عن النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات « الّذين يتّبعون الرّسول النّبي الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم » (الأعراف: 157).
وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن ، ونفتقدها في الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى اليوم، وذلك مؤذن ببطلان استدلالهم بالقرآن على توثيق ما في أيديهم من الكتب، إذ توثيق القرآن ومدحه، إنما هما لكتاب الله ووحيه، وليس للمحرف من كتبهم، والمنسوب زوراً إلى الله عز وجل.
المهتــــدین
----------------------------------------------------------
([1]) رواه الدارمي ح (480)، والطبراني في الأوسط ح (5548)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2832).
([2]) رواه البخاري ح (7363).
([3]) رواه البخاري ح (4485).
([4]) رواه أبو داود ح (3644).