السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أساتذتي الكرام، أكتُب إليكم اليوم وكُلِّي أمل في أنْ أجدَ لديكم ما يروي عطشي الفكري.
أنا مِن عائلةٍ محافظة جدًّا، تربَّيتُ على القرآن، ولي فيه شهاداتٌ كثيرةٌ، وأنا حاليًّا أعمل مُعَلِّمةً للقرآن الكريم، لكن يا أساتذتي، لا أعلم لماذا عندما أتفكَّر في القرآن وأتدبره أجد فيه تناقُضاتٍ وأشياءَ غير منطقيَّة وغير إنسانية؟!
أعلم أنَّ ما قد أكتبُه لكم مِن مَسائلَ قد عُرِضتْ مئات بل آلاف المرَّات، وتمَّ الردُّ عليها، وقد قرأتُها، لكن كل الرُّدود لم تَرْوِ عطشي، ولم تشفِ سقمي!
لماذا يأمرُ اللهُ الخالقُ الجبَّارُ المتَّصِف بالعدل المُطلَق بضربِ المرأة الناشز؟ ولماذا لا يُضرَب الرجلُ الناشز؟ لماذا يأتي أمرٌ ربَّاني إلهي لإعطاء الرجل الضوء الأخضر بضربي؟
أرجو ألَّا يحدِّثني أحدٌ عن تدرُّج الآية ونوع الضَّرب، وأنه خفيف وبالسواك وغيرها؛ فالآيةُ لم تحدِّد ماهيةَ الضرب أو نوعه!
الأنثى مخلوقٌ ضعيفٌ ورقيقٌ، كيف للإلهِ الذي خلَقَها بهذا الضَّعف أن يأمرَ الرجل بضربِها إن نشزتْ؟! ولماذا في عُرْف القرآن والأحاديث النبوية يتم تصويرُ المرأة على أنها عبدة مملوكة للرجل، ولو أمرتْ أن تسجدَ لغير الله لسجدتْ لزوجها؟! لماذا أنا عورة؟! لماذا يتم تغطيتي وإقصائي وحجبي، وأنا المظلومُ الذي لا حول له ولا قوة، وليس لي يد في أنني فتنة؟! بينما المتربِّص الظالمُ الفاعلُ يسير حرًّا طليقًا؟
لديَّ طُمُوحٌ كبيرٌ جدًّا لا أستطيع وصْفَه أو تصويره، لكني أشعُر في المقابل بالعجْزِ والضَّعْف والوَهَن عندما أقرأ: {﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33]، ومن الواقع الذي أعيشه!
لماذا يأمُر إلهي وخالقي أنْ أقرَّ في بيتي؟! لماذا أنا ممنوعة مِن الانطلاق والسعي في الحياة؟ لماذا أتحمَّل كتْمَة النقاب؟ لماذا لا أستطيع قيادة السيارة؟ لماذا أنا محرومة مِنَ التفكير بحرية، واتخاذ قراراتي بنفسي؟ لماذا أنا دائمًا تابعة للرجل؟ لماذا عند الحديث عن الاحتجاب والاحتشام، يتم تحجيمي وتحقيري، لأُشبِه قطعة الشكولاتة المغطَّاة، المرفوعة فوق درج الدُّكَّان؛ ليأتيَ صاحبُ النصيب ويشتريها؟!
لا أعلم حقيقةً، هل أنا أكره الرجل أصلًا، أو أكره كوني أنثى، أو أكره التعاليمَ التي تأمُرُ الرجلَ باحتقاري، وتحجيم دوري في الحياة، وإقصائي مِن كافَّةِ الميادين السياسيَّة والعلميَّة والإنسانيَّة؟! مع ذلك فأنا مسلمةٌ، وأُصَلِّي، وأصوم، وأفعل أكثر مما يفعل الرجلُ المحسوب على الدين الإسلاميِّ، المأمور بضربي إن نشزتُ، لكنني حرَّة في عقلي وتفكيري، ولا أقبل أي شيء غير عقلاني، أو فيه تحقير لشخصيتي وأنوثتي، وإنسانيتي ووجودي، ربما لو كنتُ رجلًا لعشقتُ هذا الدين، ولهمتُ في حبِّه وتصديقه، لكن لأنني أنثى بهذا الوضْع؛ فالريبةُ والقلقُ يكاد يقضيانِ عليَّ ويدمِّراني!
الجواب
فالذي يظهر مِن سؤالك - أيتها الأختُ الكريمةُ - أنكِ لا تريدين رُدودًا على تلك الشبُهات التي طفحتْ بها رسالتُك؛ لأنك - كما ذكرتِ - قرأتِ مئاتِ، بل آلافَ الردود، ولم تقتنعي بها - على حدِّ قولك - ولذا فلن أُجيبَ على شبهاتِك المطروحة ذاتها، ولكنني آخذٌ بيدِك إلى نقطة الصِّفْر؛ لنبدأْ مِن هناك بهذا السؤال:
هل أنتِ مُؤمنة بالله تعالى وحكمته وعلمِه اللذينِ لا حدودَ لهما؟
وأيًّا كان الجواب بنعم، أو بلا، فهو لا يزيدُ ولا ينقصُ مِن الحقيقة شيئًا؛ ألَا وهي أن لهذا الكون خالقًا، عظيمًا، عليمًا، خبيرًا، حكيمًا؛ لا يفعل شيئًا إلا بحكمةٍ بالغةٍ عَلِمْناها، أم جَهِلْناها!
وخُذي هذه الإرشادات؛ لعلها تكون سببًا في ذهاب الشكِّ والريب، والوسوسة الشيطانية عن قلبك:
أولًا: تأمَّلي في كتاب الله المفتوح، وما فيه مِن عجائب وتدبير لا يدلُّ إلا على قدرةٍ مُطلقةٍ، وعلمٍ مطلقٍ، وحكمةٍ مطلقةٍ، فهذا التأمُّل يَقودُك - ولا بُدَّ - إلى التسليم للقدير العليم الحكيم.
ثانيًا: اقرئي كتاب: "إعلام الموقِّعين عن رب العالمين"؛ للإمام ابن قيم الجوزيَّة في معرضِ كلامه عن حُكم التشريع؛ فقد تكلَّم عنها مسألةً مسألةً، وذكَر مِن الحِكَم ما يخفى أكثرُه على أكثر الخليقة الذينَ أنتِ واحدة منهم، وكذا كتاب: "محاسِن الشريعة"؛ لِلْقَفَّال الشَّاشِي الكبير.
ثالثًا: اقرئي كتاب: "قصة الإيمان"؛ لنديم الجسر.
رابعًا: وهي النُّقطة الأهم، أُرشِدك إلى الاستسلام للقويِّ القادر الحكيم، استسلامَ العاجزِ الضعيف الجاهل؛ فكما قلتِ: أنتِ امرأة ضعيفةٌ، فكيف للضعيف أن يتكلَّمَ بهذه الجُرأة مع القويِّ الخالق له، والذي خَلَقَهُ خلقًا يعجز المخلوق عن الإحاطة بعجائب الصُّنع في نفسه التي بين جنبيه، وعليك باللجوء إليه تعالى ألَّا يكلَك إلى نفسك، وأن يتولَّى هو هدايتك، وشفاء قلبك مِن وساوس الشيطان, وإبطال كيده، وصرفه عنك، فلو صَدَقتِ في اللجوء إليه، وطرحتِ نفسك بين يديه؛ لشفاكِ شفاء تتعجبين كيف تمَّ، وكان - في نظرك - مِن المستحيلات، أو قريبًا منها؛ لينضمَّ ذلك دليلًا آخر قويًّا على قوة الله القاهرة، ولُطفه العجيب بعباده.
كثيرٌ مِنَ الناس يمرُّون بمِثْلِ ما تمُرِّين به أو نحوه، أو غيره مما هو أقل منه بلاء أو أشد؛ حتى تنغلقَ عليهم أبوابُ النَّجاة في نظرهم، ثم في طرفة عين - وبصدق لجوئهم إلى ربهم - تنكشفُ عنهم الغُمَّة، وتَصِير كأن لم تكُ شيئًا، فلا يبقى على ألسنتهم وقلوبهم سوى اللهج بـ"سبحان الله"! كيف انكشَفَ هذا وانْفَرَج؟ وكانوا يظنونه لا ينفرج أبدًا ولا ينكشِفُ! فسبحان اللطيفِ الخبيرِ، العليمِ الحكيمِ!
شرح اللهُ صدرَكِ، وشفاكِ مِنْ مَرضكِ، ولطَفَ بكِ أحسنَ اللُّطف، وأنزلَ عليكِ من السكينةِ والطمأنينةِ ما يسعِدُكِ في دنياكِ وأخراكِ؛ إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.