السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا طبيبٌ استشاري للأمراض الصدرية، وموهبةُ الأدب - قصصًا، وشعرًا فصيحًا وعاميًّا - عندي منذ زمن طويل؛ لحبي وعشقي لهذه الفنون الأدبية.
وكما تعلمون يكون - في الغالب - لأية قصة أو قصيدة جذرٌ من الحقيقة، ثم يَعرِضُها الأديبُ أو الشاعر في قالبٍ أدبي، ويُضِيف إليها أحداثًا مِن خيالِه؛ لاستكمال الحبكة الدرامية - كما يقولون - وفي هذا المجال حدِّثوا عني ولا حرج، لدرجة أن معلمي اللغة العربية - أيام دراسة الإعدادي والثانوي - كانوا يأخذون قصصي في مادة الإنشاء، ويدخلون بها مسابقات! ولكن دراسة الطب عطلتْني بعض الشيء.
وبعد أن وصلتُ إلى هذا العمر - 57 سنة - عاودتْني حُمَّى الأدب، ووضعتُ لنفسي شرطين:
1- أن تكونَ القصةُ هادفةً لإحقاق حق، أو إبطال باطل، حسب المقاييس الشرعية، رغم أن ذلك لا يظهر صراحةً.
2- الأسلوب واللغة متنوعان؛ من حيث لغة الفصحى، ولغة النخبة، أو لغة الشارع، حسب بطل القصة؛ فتارةً ساخر بدم خفيف، أو متقعِّر في عويص المفردات.
وعليه؛ أفيدوني - أفادكم الله - هل هناك حرَجٌ شرعيٌّ، أو مخالفة لو التزمتُ بذلك، وكشفتُ الواقع في قالب قصصي أو شعري، أو بين بين؟
وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه، أما بعدُ:
فلا بأس من كتابة روايات أدبية مِن نسْج الخيال، إذا كانتْ تَهدِف إلى خيرٍ، وكان ذلك لا يخفَى على مَن يُطالعها، ولا يُعَدُّ مِن الكذب، وإن كان فيها أحداث غير حقيقية، لمشابهتها ضرب الأمثال.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرجَ))؛ رواه البخاري، وزاد ابن أبي شيبة في "مصنفه": ((فإنه كانتْ فيهم أعاجيب)).
قال - في "تحفة المحتاج" - تعليقًا على قول أحد أئمة الشافعية -:
"هذا دالٌّ على حلِّ سماع تلك الأعاجيب للفُرْجَة، لا للحُجَّة، ومنه يؤخَذ حل سماع الأعاجيب والغرائب من كلِّ ما لا يتيقَّن كذبه؛ بقصد الفُرْجَة، بل وما يتيقَّن كذبه، لكن قصد به ضرب الأمثال، والمواعظ، وتعليمَ نحوِ الشجاعة، على ألسنة آدميين، أو حيوانات"؛ انتهى.
ومن ذلك: "مقامات الحريري"، و"مقامات بديع الزمان الهمذاني"، وغيرهما، والتي لم نطلع على إنكارِ أهل العلم عليها مع اشتهارِها بين العامَّة والخاصَّة، وعلمهم بحقيقتها، وأنها قصصٌ خيالية لا أصلَ لها في الواقع.
ومنها: كتاب "كليلة ودمنة"؛ لعبدالله بن المقفَّع؛ فهو كتابٌ هادفٌ يتوخَّى الإصلاح الاجتماعي، والتوجيه السياسي، والنصح الخُلُقي.
فالمعيار: هو عدم تكذيب شيء ثابت، وبخاصة ثوابت الدين، وعدم الوصول به إلى غرضٍ سيِّئ، أو يترتَّب عليه نتيجة سيئة؛ فالإسلامُ لا ضرر فيه ولا ضرار.
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "... ويؤخَذ مِن ذلك ضربُ الأمثال للتصوُّر تارةً وللتصديق أخرى، وهي نافعةٌ جدًّا؛ وذلك أنَّ إدراك النفسِ لعين الحقائق قليلٌ، وما لم يدركْه فإنما يعرفه بالقياس على ما عَرَفته، فإذا كان هذا في المعرفة، ففي التعريف ومخاطبة الناس أَوْلَى وأحرى، ثم التماثل والتعادل يكون بين الوجودين الخارجين، وبين الوجودين العلميين الذهنيين، وبين الوجود الخارجي والذهني، فالأول يُقال فيه: هذا مثل هذا، والثاني يقال فيه: مثل هذا كمثل هذا، والثالث يقال فيه: هذا كمثل هذا، فالمثل إما أن يذكر مرةً، أو مرتين، أو ثلاث مرات، إذا كان التمثيل بالحقيقة الخارجية؛ كما في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: 17]؛ فهذا باب المثل"؛ اهـ.
وقال ابن عابدين الحنفي: "وذلك كمقاماتِ الحريري، فإن الظاهر أن الحكاياتِ التي فيها عن الحارث بن همام والسروجي لا أصلَ لها، وإنما أتى بها على هذا السياق العجيب، كما لا يخفى على مَن يطالعها، وهل يدخل في ذلك مثل قصة عنترة، والملك الظاهر وغيرهما".
والحاصل- مما ذكرنا -: أنه يجوز لك – أيها الأخ الكريم - كتابة الروايات الأدبية، ولو من نسج الخيال، ما دامتْ ذاتَ غرض نبيلٍ، ومغزى مفيد، ونشرها بين الناس.