السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قرأتُ فتاوى بخصوص الغشِّ في الجامعة، وأثرها في العمل، ومعظم المُفْتِين كان رأيُهم أنه يجوز استعمال الشهادة إذا تيقَّن الشخص أنه قادرٌ على الحصول عليها بدون الغش الذي حصل، ولا يجوز له ذلك في حالة عدم تمكُّنه من النجاح، أو الحصول عليها إلا مع ذلك الغش.
ومنهم مَن رأى أنه يصحُّ له العمل بها، ما دام قادرًا على القيام بالعمل، ومؤهَّلًا له، وقادرًا على إتقانه، ومنهم مَن نصح بإعادة هذه الامتحانات، ولا أدري كيف يكون ذلك؛ فإنه لا يوجد قانونٌ يسمح لك بفعلِ ذلك.
وقد قمتُ ببعض الغشِّ في الجامعة؛ مثل:
1- نقل تقارير المختبرات من التقارير الماضية، أو من الأصدقاء، وهي تشكِّل من 10 - 15 % من علامة المختبر؛ مع العلم أن الـ 85 - 90 % المتبقية هي على امتحاناتٍ لم أغشَّ فيها.
2- الغش في امتحانينِ بشكل قليل.
3- التزوير قليلًا في مشروعِ التخرُّج؛ لكي يظهرَ أنه يعمل جيدًا أمام الدكاترة، ولقد تخرَّجتُ بتقدير جيد جدًّا من الجامعة، وبعد الرجوع لكشفِ العلامات ومراجعته، تبيَّن أن الغشَّ السابق ذكرُه في معظمه - أو ربما كله - كان لن يؤثرَ في نجاحي في المادة أو المختبرات، إلا مادة واحدة ومشروع التخرُّج، فربما لم أتمكن من النجاح فيهما بدون الغش، وربما كنت أتمكن، لا أدري؟! لأن المشروع ينجح فيه جميع الطلبة حتى لو لم يعمل جيدًا، ولكن حتى لو لم أنجح، لكنتُ أعدتُه في فصل آخر ونجحتُ، وكذلك المادة، وعندي شك أيضًا إن كان أثَّر على تقديري في الجامعة أم لم يؤثر؛ أنا غير متأكِّد.
الآن أنا في حَيرة مِن أمري، لا أدري ماذا أفعل؟ فقد أُصبتُ بالوساوس، ورأسي يكاد ينفجر؛ هل ذهب كلُّ تعبي خلال السنين الماضية هباءً بدون فائدة، وسؤالي الآن:
1- هل أترُك العمل بهذه الشهادة كلِّها؟
2- هل أستخدمها، ولكن بدون ذِكْر التقدير، على اعتبارِ أن الغش أثَّر على تقديري، وليس على النجاح؛ أي: استعمال الشهادة بدون التقدير؟ وإن كان هذا صعبًا؛ فالشهادةُ مكتوب عليها تقديري؛ فهل يلزمني أن أشرح القصة لكلِّ شخص أتقدم للعمل لديه، أو عند التقدم لوظيفة حكوميَّة؟ مع العلم أنه لا يوجد شخص يمكن أن يقول هذا.
3- هل أستخدم الشهادة مع التقدير كما هي؟
4- هل يجوز أن أكمل دراستي إذا رغبتُ في ذلك؛ لأنه ربما عند التقدم للماجستير أستخدم هذا التقدير، أو ربما كان الغش لم يؤثِّر على التقدير، ولكن أثَّر على المجموع النهائي؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقد أخبرناك قبل ذلك - أخي الكريم، زادك الله ورعًا وهدايةً - أنه بعد التوبة من الغشِّ لا شيء عليك، والشهادة صحيحة، وعملك بها مباحٌ، وكذلك تقدُّمك للدراسات العليا، وأنت تعلمُ أن ذلك قول كلِّ مَن قرأت له مِن أهل العلم، ومَن قال غير ذلك فكلامُه غير واقعي، وما ذكرناه لك غير أنه هو الصحيح الموافق للمنقول والمعقول من الشريعة، فهو أيضًا فيه الصحة النفسية، وهذا سرُّ الوَسواسِ الذي أصابك، والذي لن يتركَك حتى لو تخلَّيتَ عن درجتك العلمية ولم تعملْ بها، فكلُّ هذا سيزيدهُ ضراوةً؛ لأن الوَسْواس كلما تماديتَ معه، وأعطيته طلبه؛ زاد وكبر وعظم، ولا يقلع إلا بالكفِّ عنه، وإهماله، وصرف القلب عنه.
ولبيان هذا؛ أذكر لك نقاطًا:
الأولى: روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه و سلم -: ((المؤمنُ القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرصْ على ما ينفعُك، واستعنْ بالله ولا تعجزْ، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان))، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بطلب الإعانة مِن الله تعالى ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة عليها، ولا تتحسَّر على الماضي، بل تعلَّم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، فالنظرُ إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب؛ قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 22 - 23]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]؛ قال علقمة وغيره: هو الرجل تُصيبه المصيبةُ، فيعلم أنها مِن عند الله، فيرضى ويُسَلِّم.
فالمرءُ ليس مأمورًا أن ينظرَ إلى القدر عندما يُؤمر به مِن الأفعال، ولكن عندما يجري عليه مِن المصائب التي لا حيلة له في دفْعِها، فما أصابك بفعل الآدميينَ، أو بغير فعلِهم، اصبر عليه، وارضَ وسَلِّم، ولهذا قال آدم لموسى: أتلومُني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ قبل أن أُخلَق بأربعين سنة، فحج آدم موسى؛ لأن موسى قال له: لماذا أخرجتَنا ونفسك من الجنة، فَلَامَه على المصيبة التي حصلتْ بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ لأنه تاب منه، وتاب الله عليه، والتائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب بإجماع المسلمين، فاحتجَّ عليه آدم بالقدر، وليس بالذنب؛ لأنه تِيب منه، فالقدرُ - أخي الكريم - يحتجُّ به بعد وقوع الذنب إن تِيب منه.
الثاني: تأمَّل كلام شيخ الإسلام ابن القيم؛ لتعلم مِن أين أُتيتَ؟ فقد علم الشيطان حرصَك على الحلال الطيب، فأوقعك في الوسواسِ.
قال ابن القيِّم في "مدارج السالكين" (2 / 107): "فإنَّ الشيطان يشمُّ قلب العبد ويختبره؛ فإنْ رأى فيه داعيةً للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنة؛ أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حِرْصًا على السنة، وشدة طلب لها، لم يظفرْ به مِن باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجَوْر على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها؛ قائلًا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل؛ فلا تفترْ مع أهل الفتور، ولا تنمْ مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرِّضه، حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها؛ كما أنَّ الأول خارج هذا الحد؛ فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
وهذا حالُ الخوارج الذين يحقرُ أهل الاستقامة صلاتَهم مع صلاتِهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروجٌ عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلَف: ما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريطٍ، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر؛ زيادة أو نقصان.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: ((يا عبدالله بن عمرو، إن لكلِّ عامل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فَتْرةً؛ فمَن كانت فترتُه إلى سنةٍ أفلح، ومَن كانت فترتُه إلى بدعةٍ خاب وخسر))، قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل.
فكلُّ الخير في اجتهاد باقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع؛ كما قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالُكم على منهاج الأنبياء - عليهم السلام - وسنتهم".
وفَّقك الله لكل خير، وحفظك من شر نفسك وشر الشيطان وشركِه