السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أستاذي الفاضل، أنا فتاةٌ في أواخر العشرينيَّات، مُشكلتي التي أُعانِي منها أنَّ والدي مُصِرٌّ على عدمِ تزويجي بدون أسبابٍ واضحةٍ، تقدَّم لي الغريبُ والقريبُ ورفضهما؛ بحجَّة أن الفتاةَ سلاحُها الشهادة وتكتفي بذلك، ولا حاجةَ لها في الزواج!
تدخَّل مجموعةٌ مِن الأهل لإقناعِه، ولكنه لم يهتمَّ وتجاهَلهم، وأنا فتاةٌ عاملةٌ، وهو لا يأخذ مِن راتبي شيئًا، فكيف أتصرَّف مع والدي؟
عمي يُريد أن يتدخَّلَ في الأمر؛ بحيث يكون هو وَلِيِّيَ الشرعي ويُزوِّجني، ولكني لا أريد أن أتزوَّج مِن غير رضا والدي.
أفيدوني ما الحلُّ؟! ولكم جزيل الشكر.
الجواب
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبِه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما وصل إليه حالُ بعضِ الأُسَر مِن عَضْلٍ لبناتهنَّ؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232]، وهذا خطابٌ لأولياء المرأة؛ مِن أبٍّ وغيره: ألَّا يمنعَها مِنَ التزوُّج إذا أرادتْ ذلك، فلا يجوزُ لوليِّها منعُها!
وذكر - سبحانه - في الآيةِ أنَّ مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر يمنعُه إيمانُه مِن العَضْل؛ فإنَّ ذلك أزكى وأطهر وأطيب للنساء مما يظنُّ بعضُ الآباء؛ ظنًّا منه أنَّ المصلحةَ في تَرْك تزويجِها، ونسي - أو تناسى - أنَّ اللهَ ﴿ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ لذلك كان الواجبُ امتثالَ أمرِ خالقنا، والعالِم بمصالحنا.
وأنا مقدِّر لكِ نُبْلَ أخلاقِكِ في عدم رغبتِكِ في الزواج إلا برضا والدكِ، ولكن ليس كلُّ ما يتمنَّاه المرءُ يُدرِكُه، ففي أفعالِنا الاختيارية التي تصدُر عن مشيئةٍ منَّا وقدرة يكون هذا الكلام؛ أما الأمورُ التي ليستْ تحت مشيئتنا، فنحن مُطالَبون فيها بأن ندفعَ قَدَرَ الله بقَدَرِ الله؛ كما قال المحدَّث المُلهَم الخليفةُ الراشد عمرُ بن الخطاب، فندفع قَدَرَ المرضِ مثلًا بقَدَر التداوي والدعاء، وأنتِ مطالَبةٌ بدَفْع قَدَرِ تسلُّط والدكِ بعدم الاستسلام، والبحثِ عن الحلول الشرعية المناسبة؛ ومنها: أن تتزوَّجي عن طريق عمِّكِ، وجزاه الله خيرًا أنه تحمَّل تلك المسؤولية؛ فكم مِن أعمامٍ وإخوةٍ لا يحرِّكون ساكنًا في حالات كثيرة مثل حالتكِ!
فيلزمُكِ - شرعًا وعقلًا - أن تُوَازِني بين المصالح والمفاسد؛ فأنتِ يتقدَّم بكِ العمر، وهذا قد يُقلِّل فرصَكِ في الزواج، والظاهرُ أنَّ والدكِ مقتنعٌ بما يفعله، ولا يستجيب لنُصْح أحدٍ، ولا يُدرِكُ حاجتَكِ الماسَّة للزواج؛ رغم كونِها بدهيةً؛ إذًا فزواجكِ سيتحقَّق به كل هذه المصالح، أما غضبُ والدكِ لذلك، فيُمكن تداركُه بالاعتذار والصلة، ومهما قطعك فَصِلِيه، ولا يجبُ عليكِ أكثر مِن هذا.
ولا تنسي أننا - نحن المسلمين - لم يتركْنا اللهُ هكذا، وإنما أنزل لنا كتابًا فيه منهجٌ متكاملٌ لجميع مناحي الحياة، ووازنَ - سبحانه - في شرعِه؛ فلم يطغَ جانبٌ على آخر؛ فبرُّ الوالدين جعل الله رتبتَه بعد الإيمان بالله، لكنه - سبحانه - منعَ الآباء مِن الاستبدادِ بحقِّهم حتى يضيِّعوا أبناءهم، فنهاهم - سبحانه - عن العَضْل، ومَن خالَفَ صار فاسقًا، وسقطتْ عنه نعمةُ الولاية، وتنتقل الولاية للوَلِيِّ الأبعد؛ كما نصَّ عليه جميعُ العلماء قديمًا وحديثًا.