السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تزوجتُ مِن شابٍّ مِن بلاد أوروبا، أحبَّني بشدة، وقرَّر الزواج مني، وأتى لبلدي، وأعلن اعتناقه الإسلام بإدلاء شهادته في المسجد، ثم رحلتُ معه لبلده، هو إنسانٌ طيبٌ جدًّا، ويُعاملني كالملِكة المتوجة على العرش، رغم أنني أُعاني مشكلة صحية جسدية واضحة.
أنجبتُ طفلًا، لكن المشكلة أنه برغم هذه السعادة، فإنه ينقصني أهم شيء وهو: أنَّ زوجي أظنه اعتَنَقَ الإسلام ليس عن اقتناعٍ، بل رغبة في الزواج فقط؛ لأنه مسيحيٌّ في الأصل، والشرعُ لا يجيز الارتباط به دون إسلامه.
أقول ذلك؛ لأنه لا يأتي بشيءٍ يخص المسلمين؛ فقد بقي على حاله التي كان عليها قبل إسلامه؛ مثل: زيارة الكنيسة كل يوم أحد, شُرب الخمر، أكل لحم الخنزير، فكلُّ شيء لا يوحي بإسلامه.
ولا أُخفي أنني - أيضًا - قصَّرْتُ في صلاتي سنةً كاملة، وأغوتني الدنيا التي عشتُها معه سعيدة، فنسيتُ طريق الله، ونزعتُ حجابي، وذهبتُ معه لحفلات لا تُعَدُّ ولا تحصى لأصدقاء له يتناولون فيها الخمر للصباح!
أعترف أنني لا أستحق رحمة الله بعصياني، وأنا محتقرة لنفسي - الآن - حتى إنني أخجل من نفسي، لما أتطلع لوجهي في المرآة، وأقول لنفسي: كم أنت حقيرة!
الآن أدركتُ أنَّ خطئي جسيمٌ، فقد أعماني حبه الذي هو كبير جدًّا عن اتِّباع الطريق الصواب؟ وللأسف سعادتي عليها غبارٌ كبيرٌ ومعاناةٌ، فبمجيء الطفل أصبحتُ أُفَكِّر في مستقبله الديني: هل سيعيش في هذه البقعة مسلمًا؟ لا توجد مساجد، ولا أذان، ولا شيء يخص الإسلام هنا, غير الكنائس، وكل ما هو محرَّم.
تحدثتُ مع زوجي عن الإسلام، لكنه يعترف أن الله واحدٌ أحدٌ، ويعترف بنبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنه نطق الشهادة باقتناع تامٍّ، لكنه - للأسف - لا يصلي، ولا يصوم.
أود أن أعود لوطني رغم سعادتي معه, وطني فيه مشكلاتٌ عويصةٌ لدرجة أنَّ علاجي فيه مستحيلٌ؛ أقصد: مشكلتي الصحية، وزوجي رَتَّبَ علاجي هنا رغم التكاليف الباهظة لذلك، لكنه عازمٌ عليه؛ لأنه يحبني بدرجة كبيرة جدًّا!
في حالة عزمي على الطلاق لن يكونَ لي أي مورد لتربية طفلي، زيادة على معاناتي النفسية في ظل مجتمعٍ قاسٍ، لا يرحم المطلقة، فكيف سيكون حالي الصحي وحال طفلي هناك؟ كيف سأعيش؟ وكيف يمكنني أن أنسى زوجي وحبه الكبير لي وكرمه عليَّ؟
أنا حائرةٌ، وبحاجة شديدة إلى النصح، حتى لا أُقْدِم على شيء أندم عليه طول حياتي، هل أطلب الطلاق وأفر إلى الله؟ هل أتريَّث وأدعو له بالهداية؟ علمًا بأنه مُصِرٌّ على مسيحيَّته رغم اعتناقه للإسلام، وهو يعدني أنه سيدرس الإسلام.
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحْبِه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقد أنهيت رسالتك - أيتها الأخت الكريمة - بتلخيصٍ لحال زوجك، ولم تدعي لنا خيارًا آخر، أو اجتهادًا في فَهْم عباراتك، فقلتِ: إنه مُصِرٌّ على مسيحيته رغم اعتناقِه للإسلام، وهو يَعِدُك أنه سيدرس الإسلام، وهذا يُبَيِّن سرَّ عدم استسلامه لأحكام الشريعة، ولا انقياده لأداء العبادات، أو الكف عن المحرَّمات، بل والرضا بالشِّرْك مِن الذهاب للكنيسة، مع ما يتم فيها مِن عبادةٍ للمسيح - عليه السلام.
أظن أن مشكلتَه الحقيقية أنت لم تذكريها، ولكن تركتِ لمستشارك أن يتوقعها ويتفرسها؛ فمن الظاهر أن قصتك مع هذا الرجل قد بدأتْ بقصة حبٍّ بينكما، قبل ما قصصته علينا من أحداثٍ، ولما أراد الارتباط بك، فوجئ أن الشرعَ الإسلاميَّ يمنعه من ذلك؛ لحكمٍ عظيمةٍ أدركتِ بعضها لما أنجبتِ طفلًا، وأصبحتِ تخافين عليه أن ينشأ على الكفر؛ كأبيه، وهذا هو بعينه ما اعتبره الشارعُ الحكيم في منْعِ المرأة المؤمنة مِن الزواج بكافر، وأيضًا لأن المرأة على دين زوجِها في الغالب؛ ولذلك انغمستِ معه في حياةٍ أقل ما توصف بأنها تضاد الإسلام!
وفاتَكِ في البداية أنَّ الحب يعمي ويصم، وأن الدخول في الإسلام ليس بالنطق بالشهادتين وحسْب، وإنما بالعمل بمُقتضاهما؛ لأنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقادٌ؛ فالكافرُ إذا نطق بالشهادتين ولم يعملْ بشرائع الإسلام - مع تمكُّنِه من العمل - لم يحكمْ بإسلامه؛ لتخلُّف شرط من شروط صحة إسلامه؛ وهو العملُ الصالح، ولتخلف عمل القلب، وهو الانقيادُ التام للدين.
فتمَكُّن الإسلام في القلب يكون بالمداوَمَة على العبادات الواجبة، وأعظمُها الصلاة والصيام، فالإسلامُ ليس كلمةً تُقال باللسان، وإنما هو استسلامٌ كاملٌ لله، والتزامٌ بالشريعة.
وكما أنَّ صِدق الإسلام يتبيَّن من الاهتمام بالسؤال عن أحكام الحلال والحرام، فلا تجدين مسلمًا جديدًا إلا وهو يُكثر السؤال عن كلِّ شيءٍ.
وكذلك يَتَبَيَّن الصِّدق بالاهتمام الكبير بتغيير الحال التي كان عليها مِن شعائر الكفر، وترْكه للمنكرات، والمحَرَّمات التي كان يُقارفُها أيام نصرانِيَّتِه.
كما يتجَلَّى حُسْن الإسلام بتمام استسلامِه للدِّين، وكمال انقيادِه، وكراهية ما كان عليه مِن شِرْكٍ؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجَد حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار))؛ رواه البخاريُّ.
قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في كتابه "زاد المعاد" (3/638):
"ومَن تأمَّلَ ما في السِّيَر والأخبار الثابتة مِن شهادة كثيرٍ مِن أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، وأنه صادقٌ، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام - عَلِم أن الإسلام أمرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا". اهـ.
وقال ابن القيِّم بعدما ذَكَر شهادة بعض المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، وشهادة هِرَقْل بذلك، وبعض اليهود حينما سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آياتٍ البينات، فأخبرهم بها، قبَّلوا يده، وقالوا: نشهد أنك نبيٌّ، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود - عليه السلام - دعا ألا يزال في ذريته نبي، وإنا نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا يهود، فهؤلاء قد تحققوا نبوته وشهدوا له بها، ومع هذا آثروا الكفر والضلال، ولم يصيروا مسلمين بهذه الشهادة..."، إلى أن قال: "وعلى هذا فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام؛ لأنَّ مجرد الإقرار والإخبار بصحة رسالته لا يوجب الإسلام، إلا أن يلزم طاعته ومتابعته، وإلا فلو قال: أنا أعلم أنه نبي، ولكن لا أتبعه ولا أدين بدينه، كان مِن أكفر الكفَّار؛ كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم، وهذا متفقٌ عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة السنة: أن الإيمان لا يكفي فيه قول اللسان بمُجرده، ولا معرفة القلب مع ذلك، بل لا بد فيه مِن عمل القلب، وهو حبه لله ورسوله، وانقياده لدينه، والتزامه طاعته، ومتابعة رسوله، وهذا خلاف مَن زعم أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب وإقراره، وفيما تقدَّم كفايةٌ في إبطال هذه المقالة... إلخ"؛ مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/93).
فالواجبُ عليك اعتزال هذا الشخص فورًا، ولا تمكنيه مِن نفسك؛ وأن تخيريه بين الإسلام حقًّا، وبين الفراق؛ فإن اختار الإسلام، والتزم الشرائع، فعودي إليه؛ لأنه - حينئذٍ - يكون مسلمًا، يحل لك الزواج منه، وإن أصرَّ على عدم التزام الشرائع، فانفصلي عنه؛ لأنه - حينئذٍ - يكون كافرًا، لا يحل لك الزواج منه.
وفقك الله لكل خير