السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما الأفضل مِن ناحية الأجْر؛ طلب العلم، أو الجهاد في سبيل الله؟
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإنَّ تلك المسألة مما تختلف باختِلاف الأشخاص والأوقات، وعن ابن عباس - مرفوعًا -: ((ما مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أَحَبّ إلى الله مِن هذه الأيام؛ يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسه وماله، فلم يرجعْ مِنْ ذلك بشيءٍ))؛ رواه البخاري.
وفي الصحيحين عن أبي ذرٍّ قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله)).
وفيهما عن عبدالله بن مسعود، قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاةُ لوقتِها))، قال: قلتُ: ثم أي؟ قال: ((بِر الوالدَيْن))، قال: قلتُ: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، فما تركتُ أستزيده إلا إرعاءً عليه.
والحاصلُ أنَّ الجوابَ يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ حتى قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (20/ 51) في معرض كلامه عن التعارُض بين حسنتين لا يُمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح...، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويَا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجَّح الذِّكر بالفهم، والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا بابٌ واسعٌ.
وقال العلَّامة العثيمين في "لقاءات الباب المفتوح" (52 / 15): "الإنسانُ طبيبُ نفسه، وقد نقول للشخص: الأفضل أن تتفرَّغَ لطلب العلم، ونقول لآخر: الأفضل أن تذهبَ إلى الجهاد؛ إذا كان للإنسان رغبةٌ في طلب العلم، وكان وعاءً للعلم؛ عنده حافظةٌ، وفهمٌ، وذكاءٌ، وهو في الجهاد ليس بذاك، إنسانٌ جبانٌ، إنسان ضعيف البدَن، فهنا نأمره بطلب العلم الشرعي، وعلى العكس مِن ذلك، لو كان رجلًا قوي البدَن، شجاعًا، مِقدامًا، عارفًا بآلات الحرب، لكن في العلم ضعيف الذاكرة، قليل الفهم، فهنا نقول له: اذهبْ إلى الجهاد، وإذا كان هناك رجلٌ ذكي حافظٌ قوي البدَن، لكنه يلحقه مَلَلٌ وكَسَلٌ في طلَب العلم، وعنده رغبةٌ في الجهاد، نقول له: جاهد؛ فالإنسانُ طبيبُ نفسه، وكلُّ إنسانٍ يمكن أن نُخاطبَه بشيءٍ غير الذي نخاطب به الرجل الآخر؛ حسب ما يليق بحال كل واحدٍ".
وقال أيضًا في "لقاءات الباب المفتوح" (211 / 3): "جعَل الله - سبحانه وتعالى - العلم مُعادلًا للجهاد في سبيله، فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]؛ فبَيَّنَ اللهُ - عز وجل - أنه لا يمكن للمؤمنين أن ينفروا للجهاد في سبيل الله كلهم, وهذا يَدُلُّ على أن الجهاد في سبيل الله لا يُمكن أن يكونَ فرض عينٍ على كلِّ واحدٍ؛ كفرض الصلوات مثلًا, بل لا بد أن يكونَ كل جهة من الشريعة الإسلامية لها أهلها القائمون بها؛ قال: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾؛ مِن كل فرقةٍ طائفةٌ لا كل فرقة أيضًا مِن الفِرَق في القبائل أو البلدان طائفة ليتفقهوا في الدين؛ أي: القاعدون؛ لأن معنى الآية: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾، وقعد طائفة, ليتفقهوا - أي: القاعدون - في الدين, ﴿ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾؛ فإذا علمتَ أنَّ طلَب العلم مُعادلٌ للجهاد في سبيل الله، فاعلمْ أنه جهادٌ في سبيل الله, وفي بعض الأحيان لا يمكن الجهاد إلا بالعلم, فالمنافقون - مثلًا - لا يُمكن جهادهم بالسلاح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لما استؤذن في قتلهم عبدالله بن أُبي, وقال: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، ولأن النفاقَ مستورٌ, ونحن مأمورون بأن نُعامل الناس بما يظهر مِن حالهم في الدنيا، أما في الآخرة فأمْرُهم إلى الله, فالمنافقُ - مثلًا - لا يُمكن جهاده بالسلاح، بل بالعلم، والمجادلة بالتي هي أحسن والتخويف، وما أشبه ذلك.
هذا وقد جعَل بعضُ أهل العلم طلَب العلم أفضلَ مِن الجهاد مُطلقًا، وليس نسبيًّا؛ لأنَّ العلمَ يحتاجه كلُّ أحدٍ، بخلاف الجهاد؛ ولكن بشرط أن يكونَ صاحبُه مُهَيَّأً له، وكذلك الجهاد أفضل مِن طلب العلم مُطلقًا في حق القوي الشجاع، الذي لا يقوى على الطلب، وهذا قولٌ جيدٌ".
وفقك الله الجميع لكل خيرٍ