بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على حبيبنا المصطفى، أما بعدُ:
فاللهمَّ احفظْ شيوخنا، واغفرْ لهم, وزِدْهم علمًا, واغفرْ لنا ولهم.
سؤالي أحبتي في الله:
سمعتُ حديثًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل لَهْوٍ يلهو به الرجل فهو باطل))، وعندما سمعتُ هذا الحديث، عاهدتُ الله - عز وجل - على ألا أُشاهدَ كرة القدم، وبفضلٍ مِن الرحمن لم أنقضْ هذا العهد، ولكني أريد أن أرجعَ لمشاهدة كرة القدم، فما كفَّارتي؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالحديث الذي تقصده - أيها الأخ الكريم - قد رواه أحمدُ، والترمذي، عن عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنَّ مِن الحق)).
ومعنى "باطل": أنه لا يُؤجَر عليه، ولكن لا يلحقه إثمٌ، وقد دلَّ على ذلك ما ثبت عن عطاء بن أبي رباح، قال: "رأيت جابر بن عبدالله وجابر بن عميرٍ الأنصاريين يرميان قال: فأما أحدهما: فجلس، فقال له صاحبه: أكسلت؟ قال: نعم، فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كل شيءٍ ليس من ذِكْر الله فهو لعبٌ، لا يكون أربعة: مُلاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة)).
هذا يؤكد أن اللهو من غير هذه الأربعة لعبٌ، وليس كل لعبٍ محرمًا.
قال الإمام ابن تيميَّة في "الاستقامة": "... والباطل مِن الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع، وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك...". اهـ.
وقال الشوكاني في "نَيْل الأوطار": "... قال الغزالي: قلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فهو باطلٌ)): لا يدل على التحريم, بل يدل على عدم فائدة". انتهى.
وهو جوابٌ صحيحٌ؛ لأن ما لا فائدة فيه مِن قِسْم المباح".
أما كونك عاهدت الله على ترْكِ مُشاهَدة كرة القدم، فإنه يجب عليك الوفاء به؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، والعقود هي: العهود.
فإن أردت الرجوع عن العهد، وألا تفعله، فعليك كفارة يمينٍ.
قال ابن قُدامة في "المغني" (9/ 506): "مسألةٌ: قال: (أو بالعهد)؛ وجملته: أنه إذا حلف بالعهد، أو قال: وعهد الله وكفالته، فذلك يمينٌ، يجب تكفيرها إذا حنث فيها، وبهذا قال الحسن، وطاووسٌ، والشعبي، والحارث العُكْلِي، وقتادة، والحكم، والأوْزاعِي، ومالكٌ.
وحلفت عائشة - رضي الله عنها - بالعهد ألا تُكَلِّم ابن الزبير، فلما كلمته، أعتقت أربعين رقبةً، وكانت إذا ذكرته، تبكي، وتقول: واعهداه.
قال أحمد: العهد شديدٌ في عشرة مواضع مِن كتاب الله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
ويتقرب إلى الله تعالى إذا حلف بالعهد وحنث، ما استطاع.
وعائشة أعتقتْ أربعين رقبةً، ثم تبكي حتى تبل خمارها، وتقول: واعهداه.
وقال عطاءٌ، وأبو عبيدٍ، وابن المنذر: لا يكون يمينًا إلا أن ينوي.
وقال الشافعي: لا يكون يمينًا إلا أن ينوي اليمين بعهد الله، الذي هو صفته.
وقال أبو حنيفة: ليس بيمينٍ؛ ولعلهم ذهبوا إلى أن العهد مِن صفات الفعل، فلا يكون الحلف به يمينًا، كما لو قال: وخَلْق الله.
وقد وافقنا أبو حنيفة في أنه إذا قال: عليَّ عهد الله وميثاقُه لأفعلنَّ، ثم حنث، أنه يلزمه الكفَّارة.
ولنا: أن عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا؛ كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ [يس: 60].
وكلامُه قديمٌ، صفةٌ له، ويحتمل أنه استحقاقه لما تعبَّدَنا به، وقد ثبت له عُرف الاستعمال، فيجب أن يكون يمينًا بإطلاقه، كما لو قال: وكلامِ الله.
إذا ثبت هذا، فإنه إن قال: عليَّ عهد الله وميثاقه لأفعلنَّ، أو قال: وعهدِ الله وميثاقه لأفعلنَّ، فهو يمينٌ، وإن قال: والعهدِ والميثاق لأفعلنَّ، ونوى عهدَ الله، كان يمينًا؛ لأنه نوى الحلف بصفةٍ من صفات الله تعالى".
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (35/ 251): " ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، فإذا كان قد عقَدَها بالله، كان الحنثُ فيها نقضًا لعهد الله وميثاقه، لولا ما فرضه الله مِن التَّحِلَّة؛ ولهذا سُمِّي حلُّها حنْثًا؛ والحنثُ: هو الإثم في الأصل، فالحنث فيها سببٌ للإثم، لولا الكفارةُ الماحية؛ فإنما الكَفَّارة منعتْه أن يوجب إثمًا.
ونظير الرُّخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة - أيضًا - في كفارة الظهار...". اهـ.
والكفَّارة هي: إطعامُ عشَرة مساكين مِن أوسط ما يُطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبةٍ، فإن عجز عن واحدةٍ من الثلاثة، صام ثلاثة أيامٍ.
قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89].
هذا، وأوصيك - أخي الكريم - أن تحفظَ وقتك، وأن تشغل نفسك بما يعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ))؛ رواه البخاري.
وأنت مسؤولٌ يوم القيامة عن ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمهِ فِيمَ فَعَل، وعن مالِهِ مِن أين اكتسبه وفِيمَ أنفقه، وعن جِسمِهِ فِيمَ أبْلاه))؛ رواه الترمذي.
فالعبدُ يُسأل عن عمرِهِ بِعامةٍ، وعن شبابِهِ بصفةٍ خاصةٍ، وهذا ينْطبِق على أي شيءٍ يمكن أن يعمله الإنسانُ في حياته.
ولكن لك أن تُرَوِّحَ عن نفسك بما هو مباحٌ، سواءٌ بمشاهدة المباريات إذا انضبطت المشاهدة بعدة ضوابط؛ وهي:
1- أن يكون المتبارون رجالًا؛ فلا تُشاهد المباريات النسائية.
2- أن يكونوا ساترين لعوراتهم.
3- ألا يشغلك عن فرضٍ، أو برٍّ للوالدين، أو طاعةٍ حضر وقتها.
4- ألا يصل ذلك إلا حدِّ التعصُّب لفريقٍ، بحيث يؤدِّي إلى بُغضٍ أو عداءٍ، كما نُشاهده في مجتمعاتنا.
5- ألا يجرّك ذلك إلى التفوُّه بما يغضب الله تعالى مِن سبٍّ، أو قذفٍ، أو نحو ذلك.
6- ألا يتحول ذلك إلى ملْهاةٍ تنقطِع لها، وتنفِق فيها ساعاتِ عمرِك؛ فإنَّ ذلك يفسد على المرء قلبه وعقله، ويغض مِن قدرِهِ عند عُقلاء الناس.
7- ولا ريب أنَّ الشرع رخصةٌ وعزيمةٌ؛ وقد قيل: روحوا القلوب تعِ الذِّكْر، والترويح من الرخصِ المشروعةِ، ما لم تتعدَّ طَوْرَها، وتصبِح غايةً في حد ذاتِها.
وفقك الله لكلِّ خيرٍ