بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الإسلام دين عدل، ليس فيه شيءٌ مِن الظلم، وهو دين يُوافِق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا يشذ عنها في شيء، ومن هنا أباح الإسلام للمظلوم أن يطالبَ بحقِّه، وأن يدعو على مَن ظلمه، وأن يرد إساءة المسيء بمثلها، وعلى هذا تظاهرت الأدلة الشرعية، ولم يأت في الوحي ما يخص هذا العموم، ولو كان الظالم والدًا أو كبيرًا أو وليًّا أو وجيهًا، بيد أني قرأتُ لبعض العلماء الكبار فتاوى بحرمة الدعاء على الظالم إذا كان والدًا، وأن هذا مِن العقوق، فتعجبتُ؛ لأنه لم يأت في الوحي ما يخص هذا العموم، كما سبق، لكنهم يستدلون بغير دليل؛ مثل:
1- استدلالهم بحرمة عقوق الوالدين، ولا أدري كيف أدخلوا الدعاء على الظالم بدون بغي في العقوق، فإن قالوا: العقوق هو الإيذاء، فإن إيذاء جميع المؤمنين حرام؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وهذا الخطابُ يشمل الوالدين، فلا يجوز إيذاؤهما بغير ما اكتسبوا، وإذا ظلم الوالد فقد اكتسب إثمًا، فلماذا خصوا الوالدين؟ وأنا لا أقول بتساوي الحقوق بين الوالدين وبين سائر المؤمنين، إنما أقول: عِظَمُ حق الوالدين بمجرده ليس دليلًا على حُرمة الدعاء على الظالم منهما، وإن فسروا العقوق بالإساءة، ولو كانت في مقابلة إساءة مثلها، فيرد عليهم بنص قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ﴾ [الشورى: 41، 42]، والدعاء على الظالم والمسيء مما يدخل في الانتصار بعد الظلم، وبأي سلطان من الله يُمنع المظلوم من الدعاء على والده الظالم؟! وإن فسروا العقوق بأنه التسبب في غضب الوالدين، فهذا باطل يقينًا؛ لأن الوالد قد يغضب من فعل ولده واجبًا شرعيًّا، ولا يجوز للولد أن يترك الواجب أو يفعل المحرم بحجة عدم إغضاب الوالد إجماعًا، ومن المقرر - شرعًا - أن رضا الله لا يُقَدَّم عليه رضا أحدٍ من خلقه ولو كان هذا المخلوق والدًا، وإن فسروا العقوق بأنه قطيعة الرحم، وأن الدعاء على الوالد قطيعة له، فالجواب أن غير الوالد من الأرحام تحرم قطيعته، ويجوز الدعاء عليه إذا ظلم، فبطل قولكم!
2- ومن الأدلة التي استدلوا بها: أن الله أوجب مصاحبة الوالدين بالمعروف، والدعاء عليهما ينافي ذلك، فالجواب أن الدعاء على الوالد الظالم في غير حضوره لا يلزم منه عدمُ المصاحبة بالمعروف، وهذا ظاهرٌ، كما يصاحب السلطان الظالم بالاحترام والتقدير، وعند الخلوة تلهج الألسنة بالدعاء بأن يهلكه الله.
3- ومن الأدلة التي استدلوا بها قولهم: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، ومع ذلك أوجب الله أن يصاحب الوالدان المشركان بالمعروف.
فالجواب: أنا لا نسلم أن الدعاء عليه منافٍ للمصاحبة بالمعروف كما سبق، ولو سلمنا بأنه منافٍ فإن القياس باطل؛ لأن الشرك اعتداء على حق الله، وظلم للنفس، ونحن نتكلم عن الاعتداء على حقوق الخلق وظلمهم، ومعلوم أن حقوق الخلق مبنية على المشاحَّة، ولقد جاءت الشريعة بجواز مخاصمة الوالد إلى الحاكم، ومن المعلوم أن مخاصمة الوالد مما يسوؤه ويكدره، ويضيق صدره ويسخطه، وهذه الأمور لازمة للمخاصمة؛ فبطل إذًا دخولها في حد العقوق إذا كانت في مقابل ظلم، ولو سد باب الانتصار من الوالد الظالم حتى بالدعاء، لكان حريًّا بقلب الولد المظلوم أن ينفجر من الاحتقان والغيظ، وهذا أمر لا تأتي به الشريعة الكاملة الصالحة المصلحة لجميع الشؤون؛ قال الله تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ [النساء: 148]، إن الشريعة لا بد أنها حفظت حق الولد كما حفظت حق الوالد، وأنها تبقي على فطرته سليمة سوية، ولا يمكن أن تخلو الشريعة من حفظ حق الولد بحجة أن حقه سيأخذه في الآخرة؛ لأن الإسلام دين يضبط الناس، وينظم حياتهم الدنيوية؛ فالشريعة كفلت للولد - عند وجود الموجِبِ - حق بغض الوالدين، والغضب منهما بغير بغي، ومطالبتهما بتأدية واجباتهما، وأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر، ومنعهما منه، وعصيانهما في معصية الله، وفيما لا مصلحة لهما فيه، وفيما هو خطأ، وفيما فيه ضرر، وفيما يشق مشقة غير معتادة، وفيما يؤدي إلى مفسدة ظاهرة، وكفلت الشريعة - أيضًا - حق مخاصمة الوالدين إلى الحاكم إذا منعَا حقًّا من حقوق الولد، وحق هجر الوالدين، وكيف لا تكفل الشريعة حق هجر الوالد، إذا كان لا ينفك عن إهانة واضطهاد وظلم ولده؟! إنه لا يمكن للإنسان السوي أن ينبسط - في الطبيعة البشرية - إلى من هو مقيم على ظلمه وإهانته، وأن يحترمه ويقدره ويحبه ويرضى عنه من قلبه؛ إن الغلو في شأن الوالدين حرام:
1- لأنه افتراء على الله.
2- ولأنه اتهام لدينه بالنقص.
3- ولأنه يؤدي إلى سوء الاعتقاد في الشريعة أنها لا تكفل حقوق الأولاد في الدنيا، ويؤدي إلى تنفير الناس منها.
فما رأيُكم فيما تقدم؟
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالدعاء على الوالدين الظالمين - أيُّها الابنُ الكريمُ - ليس مِن العُقُوق فحسب، وإنما هو من أشد أنواع العقوق، وأبشع صور الإساءة، وما ورد من جواز الدعاء على الظلمة إنما هي أدلة عامة لا تشمل الوالدين؛ لما ورد من نصوصٍ خاصةٍ تمنع مِن ذلك، ومعلومٌ أن العامَّ يُبْنَى عَلَى الخاصِّ.
ومن تلك الأدلة الخاصة:
أولًا: أن الدعاء على الظالم مِن الجهر بالسوء، ومعلومٌ أنه لا يجوز أذيَّةُ الوالدين به؛ فعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 148، 149].
فإن قلت: إن الابنَ سَيَدْعُو عَلَى وَالِدَيْهِ بينَهُ وبين الله - عز وجل - إذا لم يرجِعَا عن ظلمهما، واستمرا فيه، فالجواب: أن هذا شيءٌ لم يفعله إمامُ الحُنَفَاءِ إبراهيمُ - عليه السلام - مع أبيه؛ فَرَاجِعْ حِوَارَهُ معه، وتأمل تَلَطُّفَهُ معه رَغْمَ تَوَعُّدِ أبيهِ لَهُ: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 41 - 48].
ثانيًا: الواجِبُ على الابن الإحسانُ إلى والديه وبرهما وصحبتهما بالمعروف، وإن اجتهدا في دعوته للشرك؛ ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15]، فأمر فقط بعدم طاعتهما؛ لأن حق الله مُقَدَّمٌ على حق كل أحد، و((لَا طَاعَةَ لمخلوقٍ، في معصِيَةِ الخالِقِ))، وعلى الرغم من ذلك لم يقل سبحانه: وإن جاهَدَاكَ عَلَى أن تشرِكَ بي ما ليس لَكَ به علمٌ فَعُقَّهُمَا، أو ادْعُ عليهما، بل قال: ﴿ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾؛ أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾؛ أي: صحبةَ إحسانٍ إليهما بالمعروف، وأما اتِّباعُهُمَا وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تَتَّبِعْهُمَا، وتأمَّلْ أنه لم يرخِّص في تلك الحال الكبيرة في عقوقهما، ولا الإساءة إليهما، ولا شك أن الدعاء عليهما من أقبح ذلك العقوق؛ يبينه العنصر الثالث.
ثالثًا: ما رواه مُسْلِمٌ في صحيحه عن أبي هريرة، قال: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ))، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ، وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَيْتُهُ، وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ؛ قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ، وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ))؛ فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي.
فَتَدَبَّرْ ما فَعَلَهُ أبو هُريرةَ لم يَدْعُ عَلَى أُمِّهِ عَلَى الرَّغْمِ من أَنَّها لم تظلِمْهُ فقط، بل آذَتِ اللهَ ورسولَهُ.
وكذلك أن عبدالله بن أُبَيٍّ - يعني لما بَلَغَهُ ما كان من أمرِ أَبِيهِ - أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ، فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللهِ، لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا رَجُلٌ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعْنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، فَأَدْخَلَ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بَلْ نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتُهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا)).
وكلُّ هؤلاءِ من الصَّحْبِ الكرامِ لم يُنقَلْ عنهُمُ الدعاءُ عَلَى آبائِهِم، بَلْ عَلَى العَكْسِ كانوا دائمي البرِّ لهُمْ.
وفي هذا نكتة لطيفة في العلاقة بين الباطن أعني ما في القلب، والظاهر، فلو كان الابن حانقًا على والديها حتى يدعو عليهما، فلن يتمكن من برهما ولابد، ويدرك هذا كل من أدرك العلاقة بين الباطن والظاهر، وهي مسألة عقدية كبيرة تنبني عليها شرطية العمل لصحة إيمان العبد.
رابعًا: قد أمر الله - سبحانه - بالدعاء للوالدين: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24], فكيفَ نترُكُ هَذَا الأمرَ القرآنيَّ الكريمَ بل ونعكِسُهُ بالدُّعاءِ عليهِمَا؟ وهل هَذَا إلا مضادةٌ لأمر اللهِ، ومناقَضَةٌ لشرعِهِ، ومُنافٍ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عما إذا كان بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا))؛ رواه أبو داود عن أبي أسيد مالك بن ربيعة.
خامسًا: نَهَى رسولُ اللهِ الآباءَ عَنِ الدُّعاءِ عَلَى الأولاد، فمن بابِ أَولى يكون الأبناءُ منهيين عن الدعاء على آبائهم؛ فعن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ))؛ رواه مُسلِمٌ.
سادسًا: الدعاءُ عَلَى الأبَوَيْنِ وإن كانا ظالِمَيْنِ من الجهر بالسوء، كما سبق من كلام ابن عباس؛ فيكون مِنَ العُقُوق، وهو من أكبر الكبائر، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟)) ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ...))؛ متفقٌ عليهِ، فالعُقُوقُ مأخوذ من العَقِّ وهُو القَطْعُ؛ يقال: عَقَّ والِدَهُ يَعُقُّه عَقًّا وعُقُوقًّا إِذَا قَطَعَهُ وَلَمْ يَصْل رَحِمَهُ، والعَاقُّ: هو الذي شَقَّ عَصَا الطَّاعَةِ لِوَالِدِهِ، وَمِنَ القَطِيعَةِ والعُقُوق أن يَطْلُبَ مَدَدَ اللهِ عَلَى وَالِدَيْهِ وَهُمَا سَبَبُ وُجُودِهِ.
فَمَنِ ابْتُلِيَ بأَبَوَيْنِ ظَالِمَيْنِ، فَلْيُحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا، وَيَجْتَهِدْ في نُصْحِهِمَا بالتَّخَلِّي عَنِ الظُّلْمِ، فَإِن قَبِلَا ذَلِكَ فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِلَّا فَلْيَدْعُ لَهُمَا، ومما يعين على ذلك مجاهدة النفس في ذات الله تعالى، واحتساب الأجر عند الله تعالى.
سابعًا: الْأَب إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ، لا يُقْتَلُ به، ويَبْقَى عِقَابُهُ عَلَى اللهِ فِي الآخِرَةِ، كما فِي الحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((لَا يُقَادُ الوَالِدُ بِالْوَلَدِ))؛ رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ.
وهذا الحديث يحتاج لتأمل، وهو بمفرده يصلح كدليل على ما نقوله، فهو ظاهِرُ الدِّلَالَةِ عَلَى أنَّ للوالدين خِصِّيصَةً عن بَقيَّةِ الناس إن أَلْحَقُوا الظُّلْمَ بأبنائِهِمْ، فغيرُ الوالدين يُقاد إن قتل.
وَمِنْ هذا الباب - أيضًا - أنَّ الشَّارِعَ الحكيمَ نَهَى عَنِ العَوْدَةِ في الْهِبَةِ، بلْ جَعَلَ العَائِدَ في هِبَتهِ كَمِثْلِ الْكَلْبِ يَعودُ في قَيْئِهِ، إِلَّا أنه استثنى الْوَالِدَيْنِ، وأجاز لهما العودة في الهبة للأبناء؛ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا، كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ فِي قَيْئِهِ))؛ رواه الخمسةُ.
وفي الختام؛ لِتَعْلَمْ - أَخِي الكريمُ - أنَّ المُسْلِمَ حين يَكْظِمُ غَيْظَهُ مَعَ وَالِدَيْهِ، وَلَا يَدْعُو عَلَيْهِمَا وَلَوْ بينه وبينَ اللهِ، إِنَّما يَقْصِدُ - أَوَّلًا - بذلكَ كَسْبَ الأَجْرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَن يَنَالَ رِضَا اللهِ سبحانه، والفوزَ بحُسْنِ الجَزَاءِ، لِمَن يَرْغَبُ في رِضَا اللهِ تَعَالَى، مَهْمَا كَانَ جَفَاءُ الوالديْنِ؛ لأنَّ بِرَّهُمَا وَمُصَاحَبَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ آكَدِ الْوَاجِبَاتِ، كَيْفَمَا كَانَتْ قَسْوتُهُمَا؛ قال تَعَالَى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
وليسَ هَذَا مصادمًا للفِطْرَةِ الإنسانيةِ - كَمَا ظَنَنْتَ أَخِي الْكَريمُ - فأرجُو أن تَتَأَمَّلَ مَا سَلَفَ ذِكْرُهُ، وَسَتَرَى أنَّ الفِطْرَةَ الصحيحةَ عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْتَهُ، ولكن الأمر يحتاج لمجاهدة واحتساب وإرغامٍ للنفس.