السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لديَّ أكثرُ مِنْ مشكلةٍ، وسأحاول الاختصار:
الأولى: ليست لديَّ ثقةٌ في نفسي؛ عمري 19 سنة، وتحجبتُ العام الماضي، قبل ذلك كنتُ شديدة الثقة في نفسي، متباهِيَةً بشعري كثيرًا، لا أهتمُّ بكلام أحدٍ، وكان الحجابُ آخر اهتماماتي!
تحجَّبْتُ، والحمد لله الذي هداني، لكن المشكلة أنني عندما تحجبتُ بدأتْ ثقتي بنفسي تقلُّ.. إلى أن تلاشتْ تقريبًا! مع أني أثق بأني جميلة! وأسمع الكثير مِن كلمات المدح، والإطراء على شكلي وحُسن خَلْقي، من الناس وأهل زميلاتي وأشخاصٍ لا أعرفهم.. لكني ما زلتُ لا أثق في شكلي.
المشكلة أن أي كلمة إطراء تأتي لزميلتي التي تُلازمني أعدها إهانةً لي ولمظهري، ولا أقتنع أبدًا بأنَّ الناس أذواقٌ في كلِّ شيء، وبعد أنْ كان الموضوعُ تافهًا لا يهمني، أصبح الآن مشكلتي الرئيسية! ومع هذا، فأنا أحب حجابي، وأحاول - قدْر المستطاع - أن ألتزمَ به، لكني - مهما حاولتُ - لا أستطيع أن أبعدَ هذه الأفكار عن رأسي، فماذا أفعل؟ هل أبحث عن طبيبةٍ نفسية؟
المشكلة الثانية: أني منذ أكثرَ مِن عامٍ تقريبًا أحببتُ شخصًا ما، وفشلتْ علاقتي به، وابتعدتُ عنه، وهذا ما أحمدُ اللهَ - عز وجل - عليه أنْ نَوَّر بصيرتي، وأبعدني عن هذا الشر.
المشكلةُ أنني أصبحتُ أكره بشدة جنس بني آدم، والحب، وأصبحتُ مزاجية وهوائية جدًّا، لا يعجبني أحد، ولا أقصد بكلامي الحبَّ والعلاقاتِ العابرةَ، بل إني رفضتُ أكثر مِن فرصةٍ جيدةٍ للزواج، ولستُ نادمةً؛ فأنا في الوقت الحالي ما زلتُ صغيرةً على الارتباط، لكني أخاف أن يظلَّ هذا النفور موجودًا عندي حتى في المستقبل!
كنتُ فيما مضى كثيرةَ العَلَاقات بأشخاصٍ ممن يَدْعُونَ أنفسهم بالمنفتحين على المجتمعات، كان لديَّ - كما يقولون - "جروب"، واعتدنا الخروج وتمضية الوقت معًا؛ فأنا برغم صِغَر سني، لكني صادفتُ الكثير من الأشخاص في حياتي، وأغلب نتائج هذه العلاقات أثَّرت سلبًا على حياتي.
الآن أصبحتُ شديدةَ الهَوَسِ بصفات الأبراج، فتراني أحكم على الشخص مِنْ بُرجهِ، قبل أن أعرفه، وأقول في نفسي: فلان كان نفس البرج، واتضح أنهُ سَيِّئٌ فيما بعدُ، إذًا فهذا الشخصُ سيئٌ أيضًا، ومما يساعدني في الأمر أني أجد تشابهًا واضحًا في الشخصيات والأسلوب بين هؤلاء الأشخاص. ومما يدعو للضحك أنَّ هناك أشخاصًا أمنع نفسي مِن الاختلاط بهم بسبب أبراجهم الفلَكيَّة!
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فمَن يقرأ رسالتك - أيتُها الابنةُ الكريمةُ - ويتأملُ سُطورها، وما بين تلك السطور، يعلم أنكِ لا تُعانين مِن ضعفِ ثقةٍ بالنفس، وإنما سَبَبُ مشكلتِكِ هما أمران اثنان تغلَّبَا عليك، حتى أفسدَا تصوُّرَكِ، فصِرْتِ لا تُفَرِّقين بين الوهم والحقيقة، فتصوُّرُكِ وتصديقُكِ السابقُ عن الحجابِ والمحجبات كان - بِلَا أدنى شكٍّ - تصوُّرًا خاطئًا، غيرَ صحيح، فصار المثالُ العلمي في قلبك خاطئًا، فقد كنت فتاةً غيرَ محجبةٍ تروحين وتخرجين، ولك (جروب) - كما تقولين، ومَن كان هذا حاله، يَعْلَمُ من نفسه ضرورةً أن نظرته للمحجبات نظرةٌ دُونيةٌ، وإلا لتحجَّبْتِ حينها، وهذا حالُ مَن يجهل أَحَدَ مسائل الشرع، وحالُ كثيرٍ من الفتيات غير المحجبات؛ تشعُر بقوة في نفسها، وأنها أهدى سبيلًا مِن تلك المحجبات، والشيطان يؤُزُّها على هذا، فلما انقَدَحَ هذا التصورُ الخاطئُ في قلبك، ثم تحجبتِ وأنت لم تتخلصي مِن هذا الوهمِ بعدُ، بل قَوَّاهُ الشيطان بالوسواس؛ رغبةً في صَدِّك عن التوبة والإقبال على الله، فكلما كان الإنسانُ أعظمَ رغبةً في الدين والعبادة وأقدر عليها، وقوتُه أقوى، ورغبتُه وإرادتُه أَتَمَّ، كان تَسَلُّطُ الشيطان أَقْوى، وفي نفس الوقت أعظم مِن غيره إنْ نَجَّاه الله مِن الشيطان.
والحاصل: أنَّ ضعف الثقة الذي تتوهمينه حقًّا هو بمنزلة ما يراه النائم، وعِلَاجُهُ يبدأ بالتخلُّص من هذا الوهم، وهو يسيرٌ بإذن الله، ويتلخص في الآتي:
أولًا: تصحيح تصوُّرِكِ عن الحجاب والمحجَّبات، وطريق تحقيق هذا الهدف يبدأ بمعرفة حِكْمَةِ الله الكاملة في إيجاب الحجاب على النساء، وكلُّ من طَلَبَهَا وجدها لظهورها، والتي منها:
أنَّ المحَجَّبة تتميَّزُ بالعفة والطهارة عن غيرها مِن السافرات؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾ [الأحزاب: 59]؛ لأنهن إذا لم يحتجبْنَ، ربما ظُنَّ أنهن غيرُ عفيفات، فيتعرض لهنَّ مَن في قلبه مرضٌ، فيؤذيهن، أو يستهين بهن، ويتهاون بهن مَن يريد الشر؛ فالاحتجابُ حاسمٌ لمطامع الطامعين فيهنَّ، ويجعل الفتاة في مأمن مِن معابثة الفساق، فإن معرفتهن وحشمتهن معًا تُلْقِيَانِ الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن.
ومنها: الحجاب حمايةٌ للفتاة المسلمة، والجوهرةُ الغاليةُ هي التي يحفظها أهلُها، ويبعدونها عن الأعْيُن والأيدي، والإسلامُ بتشريعه للحجاب جعل الفتاةَ جوهرةً مصونة، وسلعةً غاليةً يَبْذُلُ الرجالُ مِن أجلها الغالي والثمينَ من الأموال، والوسائط، ويتقدمون لأهلها طالبين القُرْبَ، والشرف، والارتباط.
ولعلكِ أدركتِ - قبل وبعد الحجاب - تلك الحكم، وأنَّ الفتاة حينما تتبرَّج تفقد كثيرًا من حيائها، وتصبح سلعةً وأُلعوبة في أيدي ذئاب البشر الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع بجمالها، ثم تُرمَى بعد ذلك، والعجيبُ أن الشابَّ مهما كان غيرَ متديِّن يبحث عن شريكةِ حياةٍ من العفيفاتِ المتحجبات.
ومنها: أنَّ انتشار الحجاب في المجتمع، وتقلُّص نقيضه - تطهيرٌ للبيئة الاجتماعية، وإزالةُ سبب عظيم مِن أسباب الفتنة والفوضى، وحصرها في أضْيَق نِطاقٍ، وسيطرة للتقاليد الإسلامية الراقية على المجتمع كله.
ومنها - أيتها الابنةُ الكريمةُ -: أنَّ الإسلام هو الاستسلام الكامل لله، والانقياد والطاعة له؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، ولا ينبغي أن يكونَ في نفوسنا حرَجٌ أو ضِيقٌ في تطبيق أحكام هذه الشريعة التي هي مِنْ عند مَنْ خَلَقَ النفوسَ فسواها، وألهمها فُجورها وتقواها، والحرجُ من أي شيء من أمور الدين يُخْرِجُ الإنسان من الملةِ والعياذُ بالله؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾[النساء: 65].
فشأنُ المؤمن أن يُذعِنَ لأحكام الشارع، ويُسَلِّمَ لها تسليمًا، ولا يُكِنُّ في صدره حرجًا من ذلك.
ومنها: أن الله - سبحانه وتعالى - خلَق المرأة، وصوَّرها فأحسن صورتَها، وأودع فيها من الجمال والإغراء ما تفتتن به النفوس، وتذوب له المُهَجُ، وجعل في غريزة الرجل الميولَ إليها، والرغبة فيها، فهو طالبٌ، وهي مطلوبة، وأحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعَ، ومن الأسباب التي تقوي الرغبة في نفس الرجل وتشده إلى المرأة - حجابها، وعفَّتُها، وعدمُ ابتِذَالِهَا.
الأمر الثاني الذي يدحض ذلك الشعور، وينقض أوهامه: أن تتأملي وتتدبري قوله تعالى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 138، 139]، فقد شَجَّعَ اللهُ عباده المؤمنين، وَقَوَّى عزائِمَهُم، وأنهض هِمَمَهُم، ونهاهم عن أن يضعفوا أو يحزنوا؛ فالمؤمنُ المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي، لا ينبغي منه ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
وأنقل لك عباراتٍ حيةً للأستاذ سيد قطب في "ظلال القرآن" (1/479، 480):
"هذا بيانٌ للناس كافةً؛ فهو نقلةٌ بشريةٌ بعيدةٌ، ما كان الناس ببالغيها، لولا هذا البيان الهادي، ولكن طائفةً خاصةً هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة، وتنتفع به، وتصل على هداه طائفة المتقين.
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلبُ المؤمنُ المفتوحُ للهدى، والعظةُ البالغةُ لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها، ويتحرك بها، والناس قلما ينقصهم العلمُ بالحقِّ والباطلِ، وبالهدى والضلال، إن الحقَّ بطبيعته مِن الوضوحِ والظُّهور بحيث لا يحتاج إلى بيانٍ طويلٍ، وإنما تَنقُصُ الناسَ الرغبةُ في الحق، والقدرة على اختيار طريقه، والرغبة في الحقِّ والقدرةُ على اختيار طريقه، لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى، ومن ثَمَّ تتكررُ في القرآن أمثالُ هذه التقريرات؛ تنص على أنَّ ما في هذا الكتاب من حَقٍّ، ومن هُدًى، ومن نورٍ، ومِن موعظة، ومن عبرةٍ، إنما هي للمؤمنين وللمتقين، فالإيمانُ والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى، والنور، والموعظة، والعبرة، وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى، والنور، والانتفاع بالموعظة، والعبرة واحتمال مشقات الطريق.
وهذا هو الأمر، وهذا هو لبُّ المسألة، لا مجردُ العلمِ والمعرفة، فكم ممن يعلمون ويعرفون، وهم في حمأة الباطل يتمرغون! إما خضوعًا لشهوةٍ لا يجدي معها العلم والمعرفة، وإما خوفًا من أذًى ينتظر حَمَلَةَ الحق، وأصحاب الدعوة! ﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، وأنتم الأعلون؛ عقيدتكم أعلى؛ فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيءٍ مِن خَلْقِه، أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خَلْق الله! ودوركم أعلى؛ فأنتم الأوصياءُ على هذه البشرية كلِّها، الهداةُ لهذه البشرية كلِّها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقًّا فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقًّا فلا تهنوا، ولا تحزنوا؛ فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد، والابتلاء، والتمحيص". اهـ.
أما حكمك على الأشخاص ومعرفة صفاتِهم من الأبراج، فهو نوعٌ من الكَهَانَةِ المحرمةِ التي فيها ادعاءٌ لعلم الغيب، والقولُ على الله بغير علم، وليستْ مَبْنِيَّةً على علمٍ، أو عادةٍ، أو استقراءٍ، فلا يجوزُ النظرُ فيها أو تصديقُها، لقد قسم العلماء عِلْمَ النُّجوم إلى ثلاثة أقسام: حسابيات، وطبيعيات، ووهميات.
فما يُدرَكْ من طريق المشاهدة والحس، كالذي يُعرَف به الزوالُ، ويُعلَم به جهةُ القبلة، فجائزٌ، ولا يَدخُل فيما نُهِيَ عنه - هُوَ الحسابياتُ؛ كعمل التقاويم، واستخراجِ التواريخ، ونحو ذلك.
والطبيعيات: كالاستدلال من انتقال الشمس في البروج الفلكية على الفصول؛ كالحَرِّ، والبرد، والاعتدال.
أما القسم الثالث: الوهمياتُ، أو يسمَّى علمَ الفَلَكِ الاستدلاليُّ، فهو شعبةٌ من العرافة؛ حيث يَزْعُمُ المنجِّمون من أحكام النجوم، وأن لها تأثيرَها في هذا العالم مبنيٌّ على أوهامٍ لا حقيقةَ لها، فلا عَلَاقة لما يحدث في الأرض بما يحدُثُ في السماء؛ ولذلك لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ))؛ فأبطل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ارتباط الحوادثِ الأرضيةِ بالأحوالِ الفَلَكِيَّةِ.
وأيضًا في الحديث المتفق عليه، عن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قال صلى بِنَا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ في إِثْرِ السَّمَاءِ كانتْ من اللَّيْلِ، فلما انْصَرَفَ، أَقْبَلَ عَلَى الناس، فقال: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ من عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَن قال: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَن قال: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).
والاعتقادُ في الأبراج، وتأثيرها في العالم السفلي، كان مِن عقيدة أهل الجاهلية، وأن الشمس والقمر ينكسفان لموت عظيم، وأنها المؤثرة الفاعلة؛ يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النمل: 65].
وقال جَلَّ ذِكْرُه: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]؛ بَيَّنَ تعالى أنه هو المختصُّ المنفَرِدُ بعلم الغيب في السموات والأرض، وأن مفاتح الغيب بيده لا يعلمها إلا هو، ومفاتحُ الغيب ذكرها في قوله: ﴿ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[لقمان: 34]؛ فَعِلْمُ الغيب مما استأثر به ربنا - تبارك وتعالى - وهي مما اختص الله بعلمِهَا، فلم يعلَمْها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ؛ ولهذا قالت الملائكة: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، ونفى - عز وجل - أن يكون خيرُ البشر عالمًا بالغيب، فقال: ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50]، وبين - سبحانه - أنَّ الجن لا يعلمون الغيب؛ فقال: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14]، فلما أمضى الله قضاءه على سليمان بالموت فمات، لم يَدُلَّ الجنَّ على موت سليمان إلا دابةُ الأرض - وهي الأَرَضةُ - وَقَعَتْ في عصاهُ التي كان متكئًا عليها، فأكلتْها، فلما خَرَّ سليمانُ ساقطًا بانكسار عصاه تَبَيَّنَتِ الجنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب الذي يدَّعون علمه ما لبثوا في العذاب المهين المذلِّ حولًا كاملًا بعد موت سليمان، وهم يحسَبُون أن سليمانَ حيٌّ!
فلا يجوزُ لَكِ - أيتُها الفاضلةُ - أن تُتَابِعِي تلك الأبراج، فضلًا عن تصديقها، وروى مسلم عَن بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن اقْتَبَسَ عِلْمًا من النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِن السِّحْرِ، زَادَ ما زَادَ))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وابنُ ماجهْ، وصححه الألباني.
مَن اقتبس: أي: أَخَذَ، وَحَصَّلَ، وتَعَلَّمَ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ذُكِرَ أَصْحَابِي، فَأَمْسِكُوا، وإذا ذُكِرَتِ النُّجُومُ، فَأَمْسِكُوا، وإذا ذُكِرَ الْقَدَرُ، فَأَمْسِكُوا))؛ رواه الطبراني، وصححه الألباني.
فالله تعالى خَلَق النجوم لحكمةٍ أَرْشَدَنَا إليها؛ قال: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [الملك: 5].
وروى البخاري - تعليقًا - أن قتادة قال: "خَلَقَ هذه النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بها، فَمَنْ تَأَوَّلَ فيها بِغَيْرِ ذلك أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ ما لا عِلْمَ له بِهِ".
وقد نص العلماء على أنَّ مَن صدَّق هذه الطوالع، واعتقد أنها تضرُّ وتنفعُ بدون إذن الله، أو أن غير الله يعلم الغيب فهو كافرٌ، ومن اعتقد أنها سَبَبٌ من الأسباب، فهو كُفْرٌ أصغرُ؛ لجَعْلِهِ ما ليس بسببٍ سببًا.
وأختم كلامي بقول إمام المسلمين الإمام أبي العباس تقي الدين ابن تيميَّة - عليه رحمة الله تعالى - حيث قال: "وَصِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ الَّتِي مَضْمُونُهَا الْأَحْكَامُ وَالتَّأْثِيرُ - وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّمْزِيجِ بَيْنَ الْقُوَى الْفَلَكِيِّ وَالْقَوَابِلِ الْأَرْضِيَّةِ - صِنَاعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَان جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]، وَقَالَ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾ [النساء: 51]؛ قَالَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ: الْجِبْتُ السِّحْرُ".
وَفَّقَكِ اللهُ لكلِّ خيرٍ