السؤال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن مجموعةٌ مِن الشباب مختلفو الجنسيات، أصدقاء منذ أنْ كنا في الجامعة، حصلْنا على كلِّ ما نريد في حياتنا، مِن مال ونساء ومتع دنيوية؛ حلالًا كانتْ أو حرامًا.
التقينا يومًا، واسترجعنا ما مضى مِن الأيام، وبعد جلسةٍ مِن شرب الخمر، انهار الجميع، إذ لم تعد الدنيا لها معنى، وكنا في تعاسة كاملة من الداخل، نتهرب منها بالخمر والنساء.
دقَّ ناقوس الخطر عندما علمنا أنَّ أحدنا حاول - مرارًا - الانتحار؛ فقررنا أن نقومَ بمُغامرة، وأن نبحثَ في داخلنا عن روحانياتنا، فاتفقتُ مع صديقٍ لي على أن ندرسَ الإسلام، والاثنان الآخران سيدرسان التوراة.
انكببنا على دراسة اللغة العربية، وبعد أن تمَرَّسْناها، وبدأنا ندرس الدين والقرآن، وكنا نحن الأربعة نلتقي يومًا في الأسبوع لمناقشة الدينين!
واجهتْني أنا وصديقي مشكلة في فَهْم بعض الأمور، حتى بعد أن راجعتُها عند ابن تيميَّة والأصفهاني والغزالي وقطب لم يُحلَّ هذا الإشكال.
يقولون: إن مقاصد الخالق مِن الخلق ثلاثة:
• العبادة.
• عمارة الأرض.
• الخلافة.
وهذا يُذكرني - والعياذ بالله - بمفهوم الثالوث الذي تعلمناه في المدارس، أنا أفهم أنَّ الغاية مِن خلْقِنا هي عبادة الله فقط، لكن صديقنا طالب علم اللاهوت طرَح هذه القضية، ولم أستطعْ أن أجيبه.
فإذا كانت العبادةُ بمفهومها الشامل كما بيَّنَها ابن تيمية؛ هي الامتثال لأوامر الله في كل شيء يحبه ويرضاه... إلخ, فإن عمارة الأرض والخلافة تكونان أمرين وعبادتين بدَهِيَّتَيْن من الأوامر المتعددة التي أمرنا الله بها، فلماذا جُعِلَتَا مقصدين منفصلين للخالق مِن الخلق، ومن ثَم أعطيا وزنًا أكبر من باقي الأوامر والعبادات الإلهية؟
فهل خُلِقْنَا لعبادة الله فقط إذا كانت عمارة الأرض والخلافة تدخُل في مفهوم العبادة؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؟
ولماذا جُعِلا مقصِدَيْنِ منفصلَيْنِ بجانب العبادة ومُوازِيَين لها؟ أم إنه خَطَأٌ فقهيٌّ؟
وشكرا لكم.
الجواب الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالحمدُ لله الذي مَنَّ عليك بالبحث عن الإسلام، وَتَعَلُّمِ لغة القرآن، وأسأل الله أن يشرحَ صدرك، ويهديك للدين القويم، دين الإسلام العظيم.
أما الهدفُ الأعظمُ مِن خَلْقِ الإنسان فلا يتوقَّفُ عارفٌ بالله تعالى في أنه إنما هو طاعةُ الله وعبادتُهُ، والعبادةُ كما قرأتَ - أيُّها الأخ الحبيب - لشيخ الإسلام ابن تيميَّة وغيره: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه ربُّنا ويرضاه؛ فيدخل فيها عمارةُ الأرضِ بِلا شَكٍّ، ومنها: الخلافةُ أو الحكمُ والسياسةُ؛ يُبَيِّنُ هذا أنَّ الإيمان بالله ليس كلمةً وتصديقًا للقلب وحسبُ، وإنما هو - أعني: الإيمان - قولٌ واعتقادٌ وعَمَلٌ، ويدخل في العملِ الشعائرُ التعبديةُ، وعمارةُ الأرض، وطلبُ العُلُوم الشرعية، وأيضًا العلومُ الدنيويةُ؛ كالطبِّ، والهندسةِ، وعُلُوم التكنولوجيا، وغير ذلك، بل وَتَعَلُّمُ جميعِ الصِّنَاعَاتِ والمِهَنِ مِن فُرُوض الكفايات؛ نَصَّ على هذا جميعُ الأئمة المتَّبَعِينَ، فليس العبادةُ التَّبَتُّلَ والعُكُوفَ في المَسَاجِدِ، وصيامَ النَّهارِ، وقِرَاءَةَ القرآن فقط، وإنما هي مع كلِّ ذلك عمارةُ الدُّنيا، وهذا الفَهْمُ الذي لم يخالفْ فيه إلا بعضُ المنحرفين عن المنهج الإسلامي من غُلَاة الصوفية الذين دَعَوْا لترك الأسباب، وقد بَدَّعَهُمْ أئمةُ الإسلامِ.
وأدعوك - أخي الكريمُ - إلى أن تتأمَّلَ - في ظلال ما سلَف - قولَهُ تعالى: ﴿ كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ﴾ [هود: 1]، وقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
والمنهجُ الإسلاميُّ كلُّه غايتُهُ تحقيقُ معنى العبادة، وليست هي قاصرةً على مُجرَّد الشَّعَائر، كما يظن البعضُ أن المسلم متى قَدَّمَ الشعائر لله وحده، فقد عَبَدَ اللهَ وحدَهُ، ونسي أن الشعائر ما هي إلا مظهرٌ واحدٌ من مظاهِرِ الدينونة، والخضوع لله سبحانه، لا يستغرق كُلَّ حقيقة الدينونة، ولا كُلَّ مَظَاهِرِها؛ فالعبادةُ تَشْمَلُ كلَّ جُهْدٍ ينفِقُه مَن يَدِينُونَ لله وَحْدَهُ في عِمَارَةِ الأرْضِ، وتَرْقِيَتِهَا، وتَرقِيَةِ الحياةِ فيها، واستغلال ثَرَوَاتِها، والانتفاعِ بطاقاتها، والنُّهُوض بتكاليف خِلَافة الإنسان في الأرض، فَمِن سُنَّةِ الله الكونية أنَّ مَن يستخلِفُهُم في الأرض مَن يَجْمَعُون بين الإيمان، والعَمَلِ الصالِحِ، والإبداعِ في الأرض؛ لِعِمَارَتِهَا، وحيثُما اجتَمَعَ إيمانُ القلبِ ونَشَاطُ العَمَلِ في أُمَّةٍ، فَهِيَ الوارثةُ للأرض في أيِّ فترةٍ من فَتَرَاتِ التاريخِ.
الإيمانُ الصحيحُ يَدْفَعُ إلى العملِ الصالِحِ، وإلى عمارَةِ الأرضِ، والقيامِ بتكاليف الخِلَافَةِ التي وَكَلَهَا الله إلينا، ولا يكون الاستخلَافُ إلا بالنَّشَاطِ الإنسانيِّ.
ولو تأملتَ - أيُّها الحبيبُ - سنَّةَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنةَ الخلفاءِ الراشدينَ، وقرأتَ في تاريخِ عُصُور الإسلام المزدَهرة، لعلمتَ أنَّ ما أقولُهُ كان بَدَهِيًّا عندهم، وليست العبادة قسيمًا لعمارةِ الأرضِ والخلافةِ، وإنما العبادةُ اسم جنس يأتي تحته أنواعٌ لا حصرَ لها من العباداتِ؛ منها: الشعائرُ المحضةُ؛ كالصلاة، ومنها: الدنيويةُ المحضةُ؛ كعمارة الأرض، ويُؤْجَرُ عليها المسلمُ إن فَعَلَهَا استجابةً لأمرِ اللهِ بعمارَةِ الأرضِ، ومنها أيضًا: الخلافةُ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بالدنيا وعمارتها، وَتَعَلُّقٌ بالعبادة بالحكم بالعدلِ، وبما يوافِقُ ما شَرَعَهُ الله، إِذًا فالكلُّ مِن العبادة، ومِن ثَمَّ تَجِدُ الأئمةَ المتبِعينَ نَصُّوا على وُجُوب تَعَلُّم العُلُوم الدنيوية بجانب العلوم الشرعية، وعلى وُجُوب تَعَلُّم الصناعات... إلى آخره؛ فالفارقُ بين إبداعِ المسلمِ وإبداعِ غيره، أنَّ المسلمَ يفعلُ ذلك عبادةً لله، واستجابةً لأمرِهِ باستِخْلَافِ الإنسانِ في الأرض، والذي يَلْزَمُ مِنْهُ الإبداعُ والتفنُّنُ فيها، فيكونُ كُلُّ هذا مِن المعنى الشَّامِلِ للعبادة.
أمرٌ آخر لا يخفى على مثلِكَ - رعاكَ الله -: ما حَضَّ عليه دينُنَا الإسلامي العظيمُ من طَلَبِ العِلْمِ، وَجَعْلِهِ عبادةً؛ كما قَالَ معاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -: "طَلَبُ العلمِ - عندنا - عبادةٌ، ومُذَاكَرَةُ العلم - عندنا - تسبيحٌ, وبذلُ العلمِ - عندنا - صَدَقَةٌ, والسعيُ والسهرُ والسفرُ من أجل العلم جِهَادٌ, وَمَنْ أَرَادَ الدُّنيا، فعليه بالعلمِ, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ، فعليه بالعلمِ, وَمَنْ أَرَادَ الدُّنيا والآخِرَةَ، فعليه بالعلمِ".
والإسلامُ دينٌ يَحُضُّ على الْعِلْمِ في كُلِّ مَجَالاتِهِ وَمَيَادِينِهِ، ويضمَنُ الثَّواب والفلاحَ للمخلِصِينَ في طلبهم للعلم، الحريصين على نَفْعِ البلادِ والعبادِ.
ولا شَكَّ أن المسلمَ الحَقَّ لا يَعْمَلُ إلا بنيَّةٍ، بل إنه يجتَهِدُ في أن تكونَ النيَّةُ خالصةً وصادقةً، ومن فقهِهِ أن يكونَ لَهُ عددٌ من النيَّاتِ الصالِحَةِ؛ وقد جاء في الصحيح: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
والمسلمُ الحقُّ يجعلُ رضوانَ اللهِ هُوَ الغايةَ، ويستطيعُ أن يحتَسِبَ حياتَهُ كُلَّها لله؛ كَمَا قَالَ معاذٌ - رضي الله عنه -: "وَاللهِ إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي"؛ يَعْنِي: أجرًا وثوابًا على نَوْمِهِ وَقِيَامِهِ؛ لأنه لا يفعلُ شيئًا إِلَّا بنيةٍ وَهَدَفٍ.
أما ما ظَنَّهُ صاحِبُكَ مِنْ أن العبادَةَ والخلافَةَ وعمارَةَ الأرضِ أجناسٌ مختلفةٌ، فهذا فَهْمٌ مغلوطٌ ناقصٌ لكلمةِ العِبَادَةِ؛ وهو الذي جَعَلَهُ يقول: إنها تُشْبِهُ أقانيم النصارى الثلاثة؛ وهذه سَفْسَطَةٌ؛ لأن العبادة - كما ذكرنا - اسمٌ جامِعٌ لكل ما يحبُّه الله ويرضاهُ من الأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنةِ؛ فيشملُ الخلافةَ وعمارةَ الأرض بلا شكٍّ؛ يبين هذا - أيضًا - أن الأئمةَ قد نَصُّوا على أن وُجُوب تنصيبِ الخليفةِ (رئيس الدولة)، ووجوب عِمَارَةِ الأرض، وهَذَا وُجُوب شرعيٌّ ثابتٌ بالقرآنِ والسنَّةِ؛ يعني: عبادة؛ فَتَأَمَّلْ.
بل إتيانُ الشهوةِ الجنسيةِ عبادةٌ يُؤْجَرُ عليها المسلمُ عندما يأتي زَوْجَتَهُ فيعفُّها، ويعفُّ نفسه، بل وتكونُ له صدقةً؛ كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَة، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَة، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَة، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَة، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ فَبَيَّنَ لهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِيَاسٍ عَقْلِيٍّ عَكْسِيٍّ بَدِيعٍ السَّبَبَ وَالحِكْمَةَ مِن كَوْنِ الشهوةِ الجنسيَّةِ مَعَ الزوجَةِ عِبَادَةً؛ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ))؛ رواه مسلمٌ.
وانظر - رعاكَ الله - كَيْفَ قَرَنَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ التَّسْبِيحِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ والتهليلِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عَنِ المنكر - قَرَنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الجِمَاعِ وَجَعَلَ الكلَّ عِبَادَةً للهِ؟!
فالإنسانُ في عُرْفِ الإسلامِ هو الخليفةُ في الأرض؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾[البقرة: 30]، خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللهَ؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والعبادةُ تَشْمَلُ كُلَّ نشاطِ الإِنسانِ في الأرض؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ومِن بين العِبَادَةِ المطلُوبَةِ عِمَارَةُ الأرض؛ كَمَا قال تعالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾ [هود: 61]، ومن بينها السعي في الأرض، وابتغاء فضل الله؛ ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [المُلك: 15]، وخلافةُ اللهِ في أرضِهِ تكونُ بعمارتها، وصناعَةِ النهضَةِ والحضارة فيها، ولكنها نهضةٌ وَحَضَارَةٌ موصولةٌ بالله تعالى، يزيدُ هذا المفهومَ العظيمَ وُضوحًا في ربط الصلةِ في أنَّ الكلَّ عِبَادَةٌ - قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ))؛ رواهُ أحمدُ في المسند.
فهذا الحديثُ المعجِزُ لا يَصْدُرُ إلا عن نبيِّ الله حقًّا وصدقًا؛ لأن القيامة لو قامتْ على أَحَدٍ يُتَوَقَّعُ أن يُوصَى بالتوبَةِ والاستغفارِ وَنِسْيَانِ الدُّنيا، والإقبالِ على الآخرة، ولكنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّحَ هذا المفهومَ المغلوطَ بما أوحاه اللهُ إليه؛ أَنَّ غَرْسَ فسيلةِ النَّخْلِ عِبَادَةٌ كالتوبة؛ ليعلمنا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَرِيق الآخرة هو طريقُ الدنيا، بِلا اخْتِلَافٍ وَلَا افْتِرَاقٍ، وأنهما ليسا طريقَيْنِ مُنفصلَيْنِ، ولا قَسِيمَيْنِ، وإنما هو طريقٌ واحدٌ يشملُ هذه وتلك، والكلُّ اسمُهُ العِبَادَة، ولكن ما أَوْرَثَ تلك الشبهة أن العبادَةَ جنسٌ (عموم) يندرج تحتها أنواعٌ؛ نوعٌ للدنيا وعمارتها اسمُهُ العَمَلُ، ونوعٌ اسمُهُ شَعَائِرُ، ثم ينتظمُ الجميعُ في طريقٍ واحدٍ؛ أولُهُ في الدنيا، وآخرُهُ في الآخرة، وهو طريقٌ لا يفترقُ فيه الأمر الدنيوي عن العبادة، ولا العبادة عنه، كلاهما شيءٌ واحدٌ في نظر الإسلام، وكلاهما يسير جنبًا إلى جنبٍ في هذا الطريقِ الواحدِ الذي لا طريقَ سِوَاهُ.
قَالَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ))، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ))؛ رواهما البخاريُّ ومسلمٌ.
هذا وما ظننتَهُ خلاف هذا من كلام الأئمة الذين ذكرتهم، فهذا مقصودُهُم، فليس من الإسلام الفصلُ بَيْنَ هذا وذاك؛ فدينُنَا لا يطلب منا أبدًا أن نَعْتَزِلَ الدنيا، أو أن ننسى اللهَ تَعَالَى ونحن نمارس أعمالَنَا وأنشطتنا الحياتية؛ من دِرَاسَةٍ، وَتِجَارَةٍ، وَصِنَاعَةٍ، وغيرها؛ بدعوى أننا - الآن - نعملُ للدُّنْيَا، وعندما نفرغُ منها سَنَعُودُ إلى الاشتغال بالعبادة، كَلَّا، إن ذلك ليس من الإسلام؛ فالمسلمُ لا يغيبُ قصدُ اللهِ واليومِ الآخِرِ عن قَلْبِهِ، ولكن ما يتَنَوَّعُ هو أنواع تلك العبادات؛ فيأكل المسلمُ باسم الله، ويجامِعُ زوجته باسم الله، ويتعلَّمُ باسم الله، وفي سبيل الله، ويعملُ ويُنتِجُ ويَتَقَوَّى ويستَعِدُّ لِتَحَمُّلِ الأعْبَاءِ باسم الله، لا تشغله الدنيا عن الآخرة، ولا الآخرة عن الدنيا؛ لأنهما طريقٌ واحِدٌ لا يَفْتَرِقَانِ.
وَيُمْكِنُنَا أن نُعَبِّرَ عن هذه التسميات المتعدِّدَةِ لشيءٍ واحدٍ بِمَا يُوضِّحُ المُرَادَ مِنْهَا فنقولُ: إِنَّ هَذَا التَّعَدُّدَ والِاختِلَافَ إِنَّما هُو من بَابِ اختلافِ العِبَاراتِ باختلافِ الِاعْتِبَارَاتِ؛ يعني: أنَّ طريقَ العبادةِ الشاملَ لكلِّ ما يحبُّه الله تعالى ويرضاه، إذا كان باعتبار تعميرِ الأرض وإصلاحها والانتفاعِ بما فيها فهي العِمَارَةُ، وإذا كان باعتبار سياسةِ أمر الناس وحراسَةِ دِينِهِمْ ودُنْيَاهُمْ فهي الخِلَافَةُ، وإذا كان باعتبار الشعائر التعبدية المحضة فهي العِبَادَةُ؛ من باب تسمية الكلِّ باسم الجُزْءِ؛ وهذا مما تسمح به اللُّغة كثيرًا؛ للتوضيح والبيان، فأين هذا من أقانيم النَّصَارَى التي هي - في الحقيقةِ - ثلاثةُ أشخاصٍ مختلفة يجعلونها شخصًا واحدًا؟! أين هذا من ذَاكَ؟! شتانَ بين الثَّرَى والثُّرَيَّا!
وفقك الله لاتباع الإسلام