السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاة تعرَّضْتُ منذ سنوات للسقوط على منطقة الفرْج، وأحسستُ بألمٍ فظيعٍ في هذه المنطقة، وذهبتُ أنا ووالدتي إلى المستشفى للاطمئنان، وللأسف الشديد كان الطبيبُ نصرانيًّا، ومعه ممرضة نصرانيَّة أيضًا، وبعد الكشْف والاطمئنان انتابني شعورٌ بالحزن، وشعرتُ بالندَم الشديد لأنني جعلتُ طبيبًا نصرانيًّا يكشف عليَّ!
الآن أعيش في حالة خوفٍ مِن الله، وندَم شديد، أريد أن أعرفَ كيف أُكَفِّر عن هذا الذنب؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فنحن جميعًا - أيتها الأختُ الكريمة - نؤمن بسَعة رحمةِ الله تعالى، وقبوله توبة عباده، بل وفرَحه بذلك، وعفوه عن السيئات، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، والذنبُ - وإن عَظُمَ - والكفرُ - وإن غلظ - فإنَّ التوبة تمحوه، فلا يتعاظمه - سبحانه - ذنبٌ أن يغفرَه، ويغفر الشرك والكفر للتائبين؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وقد نصَّ الأئمةُ على أنَّ الآية عامةٌ مُطْلَقةٌ لكلِّ مَن تاب.
فمهما فعلتِ - أختي الكريمة - فالتوبةُ تَغْفِرُه - إن شاء الله - وهي فرْضٌ على جميع العباد في جميع الأوقات، ونبيُّنا - وهو سيدُ ولد آدم - كان يتوب ويستغفر اللهَ في كلِّ وقتٍ؛ كما صَحَّ عنه عن الأغَرِّ المُزَنَيِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)).
وعنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله, فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرةٍ))؛ رواهما مسلمٌ.
وروى البخاريُّ عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واللهِ، إني لأستغفر اللهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر مِن سبعين مرةً)).
وتأمَّلي كلامَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (15/ 54): "الذنبُ الذي يضُرُّ صاحبَه هو ما لم يحصلْ منه توبةٌ، فأما ما حصل منه توبةٌ، فقد يكون صاحبُه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة؛ كما قال بعض السلَف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالًا قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة مِن الكفر والكبائر؛ فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتِهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدَّم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا، بل لما تابوا مِن ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانًا، وأقوى عبادةً وطاعةً ممن جاء بعدهم، فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام مَن لم يعرف الجاهلية؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن الله يحاسب عبده يوم القيامة، فيعرض عليه صغار الذنوب، ويخبئ عنه كبارها، فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب، وهو مُشفقٌ مِن كبارها أن تظهرَ، فيقول: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئةٍ حسنةً، فهنالك يقول: رب إنَّ لي سيئاتٍ ما أراها بعدُ))، فالعبدُ المؤمنُ إذا تاب وبدَّل الله سيئاته حسناتٍ، انقلب ما كان يَضُره مِن السيئات بسبب توبته حسناتٍ ينفعه الله بها، فلم تبقَ الذنوبُ بعد التوبة مُضِرَّةً له، بل كانتْ توبتُه منها مِن أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية، لا بِنَقْص البداية، فمَن نَسِيَ القرآن، ثم حفظه، خيرٌ ممن حفظه الأول لم يضره النسيان، ومَن مرض ثم صَحَّ وقوي، لم يضره المرض العارض، واللهُ تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصلَ له بذلك من تكميل العبودية والتضرُّع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة - ما لم يحصل بدون التوبة، كمَن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشبع والرِّي والعافية والغنى والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذَّته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولًا - ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وينبغي أن يعرفَ أن التوبة لا بد منها لكل مؤمنٍ، ولا يكمل أحدٌ ويحصل له كمال القرب مِن الله ويزول عنه كل ما يكره - إلا بها".
فمهما فعلتِ فاستغفري الله، وتوبي إليه، وقد ندمتِ على ما كان منك، والندمُ توبةٌ؛ كما صح عن الصادق المصدوق، واعزمي على عدم العودة لمثل هذا مستقبلًا - إن شاء الله.
وأختم لك - أيتها الأخت الكريمة - بتحفةٍ شرعيةٍ لشيخ الإسلام ابن القيم حيث قال في كتابه العظيم: "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدَر والحكمة والتعليل" (ص: 222): "أنه - سبحانه - يفرح بتوبة عبدِه إذا تاب إليه أعظم فرحٍ يقدر، أو يخطر ببالٍ، أو يدور في خلدٍ، وحصول هذا الفرح موقوفٌ على التوبة الموقوفة على وجود ما يُتاب منه، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه، فإنَّ وُجود الملزوم بدون لازمه محالٌ، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل مِن عدمه، فمِن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه، وقد نبَّه أعْلَمُ الخَلْقِ بالله على هذا المعنى بعينه؛ حيث يقول في الحديث الصحيح: ((لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، ثم يستغفرون الله فيغفر لهم))، فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي، فلِمَنْ يغفر؟ وعلى مَن يتوب؟ وعمَّن يعفو ويسقط حقه، ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه، وهو واسع المغفرة؟ فكيف يعطل هذه الصفة؟ أم كيف يتحقَّق بدون ما يغفر ومن يغفر له ومَن يتوب وما يتاب عنه؟ فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمةً، وغاية محمودةً، فكيف والحِكَم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطُر بالبال؟ وكان بعضُ العباد يدعو في طوافه: اللهم اعْصِمْني مِن المعاصي، ويُكرر ذلك، فقيل له في المنام: أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم من الذنوب، فلِمَنْ أغفر؟ وعلى مَن أتوب؟ وعمَّن أعفو؟ ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرمَ الخَلْق عليه". اهـ.
غفر الله لنا جميعًا ما قدَّمنا وما أخَّرْنا، وما أسْرَرْنا وما أعْلَنَّا، وما هو سبحانه أعلمُ به منَّا.