{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } * { أَن جَآءَهُ الأَعْمَى }
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ـ وعنده صناديد قريش " عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة " يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم .
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه ، عن من ؟
أعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي قد يعطل الرسول عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره!
ولهذه المسألة وجهين :
الأول: ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء ، فلهذا السبب حصلت المعاتبة
والوجه الثاني : هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام من الفعل الظاهر، بل على ما كان منه في قلبه ، وهو أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم، فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة .
وفي الموضع سؤالات :
الأول : أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله رسوله على أن أدب ابن أم مكتوم وزجره؟ وإنما قلنا: إنه كان يستحق التأديب لوجوه أحدها:
أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم ، لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم أولئك الكفار، وكان يسمع أصواتهم أيضاً، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وذلك معصية عظيمة .... لكن الله عاتبه لأن الأعمى يستحق مزيد الرفق والرأفة
وثانيها: أن الأهم مقدم على المهم، وهو كان قد أسلم وتعلم، ما كان يحتاج إليه من أمر الدين، أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا، وهو إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم، فإلقاء ابن أم مكتوم، ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم، لغرض قليل وذلك محرم
وثالثها: أنه تعالى قال: { إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [الحجرات: 4]
فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته، أولى أن يكون ذنباً ومعصية، فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية، وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب ، وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل؟...
وهذا العتاب بسبب أن الرسول كان مأذوناً في تأديب أصحابه ، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلاً في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه... لكن هنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء ، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.
القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية وقالوا: لما عاتبه الله في ذلك الفعل، دل على أن ذلك الفعل كان معصية، وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين لا بحسب هذا الاعتبار الواحد، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا كان كذلك، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط ، وترك الأفضل ، فلم يكن ذلك ذنباً البتة.
لذلك نزلت هذه الآية ، { عبس وتولى. أن جاءه الأعمى }.. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب؛أي بلفظ الإخبار عن الغائب ، وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث لا يحب الله ـ سبحانه ـ أن يواجه به نبيه وحبيبه، عطفاً عليه، ورحمة به ، وتعظيماً له ، وإكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر،... فالله لم يقل: عبَستَ وتوليتَ.
واعلم أن في الأخبار عما فرط من رسول الله ثم الإقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة
واعلم أن ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافي ما هو معروف من حسن أخلاقه، فإن الذي حصل منه إنما هو عبوس سببه حرصه على اهتداء المشركين ، وكان واثقا من أنه سيلقى ابن أم مكتوم في أوقات أخرى، وهذا العبوس لم يره ابن أم مكتوم رضي الله عنه لأنه كان أعمى، ولم يُرْوَ أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بما يؤذي ابن أم مكتوم أو يجرح شعوره.
وقال المستشرق (ليتنر) حيث قال : (( مرة أوحى الله إلى النبي وحيا شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا -كما يقول أغبياء النصارى بحقه -لما كان لذلك الوحي من وجود ))
وهل هذه شبهة يثيرها هؤلاء الذين يظنون أنفسهم بالعقلاء؟!
وماذا يكون من حال أولئك الملوك والرؤساء والوزراء الذين يضعون على أبوابهم حجاباً يمنعون عنهم الناس ، وأمثلهم يسمح بدخول الناس بشكل منظم الأول فالأول ، وقد كان مشركوا قريش هم السابقون لعبد الله ابن أم مكتوم
عند
النبى . فمن الطبيعى أن يتأخر ابن أم مكتوم عن محادثة النبى حتى يفرغ
من محادثة القوم.
وعلى ما يبدو أن الذى دفع هؤلاء لإثارة هذه الشبهة هم أنهم اغتروا بنص القرآن الكريم ، لما فيه من عتاب رقيق للنبى
فاعتبروها خطأ ،رغم أنها فى أعراف الناس لا تعد كذلك ،للمثال الذى سبق أن سقناه.
وقد يقول بهذا : أنه لم يكن هناك ضرورة لهذا العتاب! وليس الأمر كذلك. فالآيات عاتبت النبى
لأنه عبس فى وجه ذلك الأعمى ، حيث ظن أن فى هؤلاء القوم خيراً قد يرجى منهم ، مع العلم أن النبى
لا يعلم الغيب. فأخبره ربنا أن ( محصلة ) التعامل مع هذا الأعمى الفقير الوحيد خير من (محصلة ) التعامل مع هؤلاء الأغنياء الكثيرون. فكأن الآيات تخبر النبى
بأنه لا خير يرجى من هؤلاء وأنهم لن يسلموا ، وعليه فإن قضاء الوقت مع الأعمى خير من قضائه مع هؤلاء رغم كثرتهم.
ملحوظة جديرة بالذكر : قلنا أن النبى
( عبس ) فى وجه الأعمى ، ونحن نقول : وهل رأى هذا الأعمى عُبوس النبى
فى وجهه؟ اجابة حتما بـ (لا) ، ومن هنا جاءت الإشارة للصحابى الجليل
بصفة الأعمى انتصاراً له وانتصاراً للنبى
على حد سواء. وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس وهو على النحو الآتى :
فالنص القرآنى جاء انتصاراً للصحابى
لأنه حدث شئ فى حقه وهو لا يعمله ألا وهو عُبوس النبى
فى وجهه ، ولأن الله هو أحكم الحاكمين ولأنه هو الذى يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون فقد انزل هذا القرآن الذى يتلى حتى يوم القيامة ليعلم ذاك الأعمى أن له رباً يدافع عنه ولو كان فى مقابل نبى كريم كالنبى
. فأخبره أن النبى
عبس فى وجهه ، حيث أن الله سبحانه هو نفسه الذى أخذ منه نعمة البصر فعوضه عنها بأن أخبره بما كان عن طريق الوحى. وقد شرفه ربه بذكره فى القرآن إلى يوم الدين.
كما جاء عتاب الله سبحانه للنبى
انتصاراً للنبى
حتى لا يكون لأحد من الخلق مظلمة عليه حتى ولو كانت عبوساً فى وجهه ، فلا تُقتص منه يوم القيامة على رؤس الأشهاد. ليبقى النبى
فى أعظم مكان بين البشر أجمعين ، فلا يجعل الله لأحد عليه سبيل.
كما يتجلى فى الآية الحكمة الإلهية والعدل الإلهى المطلق والذى يحكم بين عباده مهما اختلفت درجاتهم وتفاوتت مكانتهم ، فيأخذ من هذا لذاك ، حتى ولو كان هذا الـ هذا ، نبى مرسل ، وحتى لو كان هذا الـ ذاك فقير أعمى.
فسبحان الذى أحكم كتابه.