حديث: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ... الحديث، السؤال: لفظ: أنفسها; هل هو بالرفع (أي: بغير اختيارها), أم بالنصب (أي: باختيارها) - جزاكم الله خيرًا -؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلفظ: أنفسها ضبط بكل من النصب والرفع، إلا أن الأشهر، والذي عليه أكثر رواة الحديث، هو النصب، بينما ذهب أهل اللغة إلى الرفع.
قال النووي: ضَبَطَ الْعُلَمَاء أَنْفُسهَا بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع، وَهُمَا ظَاهِرَانِ، إِلَّا أَنَّ النَّصْب أَظْهَر وَأَشْهَر. وقال الحافظ ابن حجر: وَقَوْله: "مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا" بِالْفَتْحِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّة, وَذَكَرَ الْمُطَرِّزِيّ عَنْ أَهْل اللُّغَة أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْرِ اِخْتِيَارهَا.
وقال أيضًا: وَضَبْطُ أَنْفُسهَا بِالنَّصْبِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالرَّفْعِ.
وأما بخصوص المعنى، فقد أجاد أبو جعفر الطحاوي في بيان ذلك، ونفى ما ادعاه أهل اللغة من أن المراد بذلك ما كان بغير اختيار النفس، مستدلًا على ذلك بأن التجاوز لا يكون عن الخواطر المعفو عنها أصلًا، وإنما يكون عن الأشياء التي لو لم يُتجاوز عنها لعوقب الإنسان عليها، وهي التي يهم بها، فقال في مشكل الآثار: فتأملنا نحن هذا الحديث، وهل يحتمل خلاف ما قال أهل اللغة فيه، مما يوافق ما كان الذين أخذناه عنهم حدثونا به مما يعود إلى ما حدثت به أنفسها بالنصب أم لا، فوجدنا منه ذكر التجاوز من الله تعالى لنبيه في أمته عما تجاوز لها عنه، فكان التجاوز لا يكون إلا عن ما لو لم يتجاوز عنه لكانوا معاقبين عليه، وذلك مما قد عقلناه أنه لا يكون من الخواطر المعفو عنها، وأنه إنما يكون من الأشياء المجتلبة بالهموم بها، فكان وجه ذلك عندنا - والله أعلم - على ما يهم به من المعاصي ليعملها، فتجاوز الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عنهم ذلك، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه، ومن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة، فلم يعملها، فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا، وإذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها، فلا تكتبوها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن هو تركها فاكتبوها حسنة.
قال أبو جعفر: سمعت يونس يقول: ثم قرأت هذا الحديث على سفيان بعد أن حدثنا به، فزادني في الحسنة: فاكتبوها إلى سبع مائة ضعف، وزادني في السيئة: فإن تركها من خشيتي، فانتفى بذلك ما ادعاه أهل اللغة على المحدثين في هذا الحديث مما قد ذكرناه معهم، وعاد الحديث إلى ما حدثت به أنفسها بالنصب، كما نقلوه إلينا، لا بالرفع، والله عز وجل نسأله التوفيق. اهـ
وعلى ذلك، فسواء ضبط الحديث بالنصب، أو الرفع، فالأدلة الشرعية صريحة في العفو عن حديث النفس عمومًا ما لم يتكلم به الإنسان، أو يعمل.
قال السندي في شرح سنن ابن ماجه: قَوْله: (عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا) يَحْتَمِل الرَّفْع عَلَى الْفَاعِلِيَّة، وَالنَّصْب عَلَى الْمَفْعُولِيَّة، وَالثَّانِي أَظْهَر مَعْنًى، وَعَلَى الْأَوَّل يُجْعَل كِنَايَة عَمَّا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ أَلْسِنَتهمْ، وَقَوْله: مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ، أَوْ تُكَلِّم بِهِ، صَرِيح فِي أَنَّهُ مَغْفُور مَا دَامَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ قَوْل، أَوْ فِعْل، فَقَوْلهمْ: إِذَا صَارَ عَزْمًا يُؤَاخَذ بِهِ مُخَالِف لِذَلِكَ قَطْعًا، ثُمَّ حَاصِل الْحَدِيث أَنَّ الْعَبْد لَا يُؤَاخَذ بِحَدِيثِ النَّفْس قَبْل التَّكَلُّم بِهِ، وَالْعَمَل بِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ثُبُوت الثَّوَاب عَلَى حَدِيث النَّفْس أَصْلًا، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُعَارَض بِحَدِيثِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَانَتْ لَهُ حَسَنَة فَقَدْ وَهَمَ بَقِيَ الْكَلَام فِي اِعْتِقَاد الْكُفْر وَنَحْوه وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَدِيث النَّفْس بَلْ هُوَ مُنْدَرِجٌ فِي الْعَمَل وَعَمَل كُلّ شَيْء عَلَى حَسَبه أَوْ نَقُول الْكَلَام فِيمَا يُتَكَلَّم إِلَخْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَال الْقُلُوب وَعَقَائِده وَلَا كَلَام فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
والله أعلم.