ذكر هذا الحديث في صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب الفي، ورقم الحديث 3302 1757، وفيها نص أشكل علي وهو: فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم ـ ص: 1378ـ فقال مالك بن أوس: يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر: اتئدا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا نعم، ثم أقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالا: نعم ـ فالسؤال الأول هو: ما هي المشكلة التي حصلت بين العباس وعلي ـ رضي الله عنهما ـ مع الدليل. والثاني: قال العباس: اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ـ فلماذا قال العباس الكلام ـ رضي الله عنه ـ وما الدافع الذي جعله يقوله؟ وهل قصد المعنى أو قصد أن عليا كاذب دون سب؟ وحاشا عليا، فهل قاله العباس أو أنه خطأ من الناقلين؟ وكيف حصل الخطأ مع الدليل؟. والثالث: فقال عمر: اتئدا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم، فلما قال عمر رضي الله عنه: لا نورث ما تركنا صدقة ـ فما هي القضية التي حصلت إن كانا يعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث.. إلخ؟ ولماذا يختلفان مع أنه لا يجوز الاجتهاد أو مخالفة النص مع الدليل؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج مسلم في صحيحه القصة كاملة عن الزهري: أن مالك بن أوس، حدثه، قال: أرسل إلّي عمر بن الخطاب، فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسًا على سرير, مفضيًا إلى رماله، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: يا مال؛ إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم برضخ، فخذه فاقسمه بينهم، قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مال، قال: فجاء يرفا، فقال: هل لك ـ يا أمير المؤمنين ـ في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد؟ فقال عمر: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء، فقال: هل لك في عباس، وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل ـ يا أمير المؤمنين ـ فاقض بينهم وأرحهم ، فقال مالك بن أوس: يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر: اتئدا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس، وعلي، فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالا: نعم، فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة، لم يخصص بها أحدا غيره، قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ {الحشر:7} ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا؟ قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله، ما استأثر عليكم، ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال، ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم نشد عباسًا، وعليًا، بمثل ما نشد به القوم، أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نورث ما تركناه صدقة ـ فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق، فوليتها, ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع, وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم، قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما، ولا - والله - لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إليّ. اهـ.
وأما كلام العباس لعلي رضي عنهما: فهو إن ثبت عنه محمول على كلام الوالد وعتابه لابنه، فقد قال ابن حجر في الفتح: وإن كانت محفوظة فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي، لأنه كان عنده بمنزلة الولد فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد... ولا بد من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ومن ذكر معه ولم يصدر منهم إنكار لذلك مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر. اهـ.
وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 15ـ 24 ـ وَفِي رِوَايَة مُسلم: اقض بيني وَبَين هَذَا الْكَاذِب الآثم الغادر الخائن ـ يَعْنِي: الْكَاذِب إِن لم ينصف، فَحذف الْجَواب، وَزعم الْمَازرِيّ أَن هَذِه اللَّفْظَة ننزه الْقَائِل وَالْمقول فِيهِ عَنْهَا وننسبها إِلَى أَن بعض الروَاة وهم فِيهَا، وَقد أزالها بعض النَّاس من كِتَابه تورعاً، وَإِن لم يكن الْحمل فِيهَا على الروَاة فأجود مَا يحمل عَلَيْهِ أَن الْعَبَّاس قَالَهَا إدلالاً عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة وَالِده، وَلَعَلَّه أَرَادَ ردع عَليّ عَمَّا يعْتَقد أَنه مخطئ فِيهِ، وَأَن هَذِه الْأَوْصَاف يَتَّصِف بهَا لَو كَانَ يَفْعَله عَن قصد، وَإِن كَانَ عَليّ لَا يَرَاهَا مُوجبَة لذَلِك فِي اعْتِقَاده، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْمَالِكِي: شَارِب النَّبِيذ نَاقص الدّين، والحنفي يعْتَقد أَنه لَيْسَ بناقص، وكل وَاحِد محق فِي اعْتِقَاده، وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن هَذِه الْقَضِيَّة جرت بِحَضْرَة عمر وَالصَّحَابَة ـ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ـ وَلم يُنكر أحد مِنْهُم هَذَا الْكَلَام مَعَ تشددهم فِي إِنْكَار الْمُنكر، وَمَا ذَلِك إلاَّ أَنهم فَهموا بِقَرِينَة الْحَال أَنه تكلم بِمَا لَا يَعْتَقِدهُ ـ قلت: كل هَذَا لَا يُفِيد شَيْئا، بل يجب إِزَالَة هَذِه اللَّفْظَة عَن الْكتاب، وحاشا من عَبَّاس أَن يتَلَفَّظ بهَا وَلَا سِيمَا بِحَضْرَة عمر بن الْخطاب وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة، وَلم يكن عمر مِمَّن يسكت عَن مثل هَذَا لصلابته فِي أُمُور الدّين وَعدم مبالاته من أحد، وَفِي مَا قَالَه نِسْبَة عمر إِلَى ترك الْمُنكر وعجزه عَن إِقَامَة الْحق، فاللائق لحَال الْكل إِزَالَة هَذِه من الْوسط، فَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل غير طائل، فَافْهَم. اهـ.
وأما كلامهما في القضية مع علمهما بحديث: لا نورث ما تركنا صدقة ـ فهو محمول على خلافهما في كيفية التصرف في المال والقيام عليه لا على أنهما أرادا أخذه أو تقسيمه على سبيل التركة، قال الشوكاني في نيل الأوطار: وأما مخاصمتهما بعد ذلك عند عمر: فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث، إنما تنازعا في ولاية الصدقة وفي صرفها كيف تصرف، كذا قال, لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث, ولفظه في آخره: ثم جئتماني الآن تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي, والله لا أقضي بينكما إلا بذلك ـ أي إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية، وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس , ونحوه في السنن لأبي داود وغيره أرادا أن عمر يقسمها بينهما لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه, فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يقع عليهما اسم القسمة, ولذلك أقسم على ذلك..... اهـ.
والله أعلم.